السوريون يغيِّرون معالم المجتمع الألماني!

بعد 5 سنوات من موجة توافد اللاجئين

نشر في 13-08-2020
آخر تحديث 13-08-2020 | 00:04
ثمة مشكلة في الخبز الألماني! هو يتفتت عند استعماله لمسح الباذنجان المقلي أو سلطة البرغل من الطبق. كذلك، يصعب أن نملأه باللحم وطحينة الحمص والصلصات. تتعدد استعمالات المخبوزات الألمانية التقليدية لكنها
لا تستطيع القيام بكل شيء.
لا عجب إذاً في أن يقول محمد حناوي (20 عاماً) إن الخبز العربي هو المنتج الأكثر شعبية في متجر البقالة لديه. هو مناسب تقريباً لجميع الأطباق التي يتناولها السوريون.
في أحد أيام الاثنين من شهر فبراير، كان حناوي يجلس وراء صندوق الدفع ويرتدي سترة رياضية زرقاء وبيضاء. في تلك المرحلة، كانت أزمة فيروس "كوفيد- 19" تبدو مشكلة بعيدة. وقف والده بالقرب منه وراح يَزِن الزيتون لأحد العملاء فيما يدوّن حناوي الطلبيات باللغة العربية. لقد فتح هذا العمل العائلي في يناير، ويقول إن الوضع ممتاز وتحظى الفاصوليا والنقانق ومخلل ورق العنب بشعبية كبيرة أيضاً: "المنتجات السورية... هذا ما كان الناس يفتقده هنا"!

هو يقيم في "يوترسن" في حي "بينبيرغ" بالقرب من "هامبورغ"، في شمال غرب ألمانيا. تشمل هذه المدينة حوالي 19 ألف نسمة، وحتى عام 2015 لم يكن أيٌّ من سكانها يحمل خلفية شرق أوسطية. يقول حناوي إن عائلته كانت من أوائل العائلات التي انتقلت إلى المدينة. اليوم، يقيم حوالي 300 سوري في "يوترسن".

يشكّل السوريون راهناً أكبر أقلية مسلمة في ألمانيا بعد الأتراك. منذ عام 2010، ارتفعت أعدادهم في البلد من 30 ألفاً إلى 800 ألف تقريباً.

وصل معظمهم كلاجئين بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية وقد بدؤوا يغيّرون معالم البلد، كما فعل المهاجرون الأتراك طوال عقود.

بين عامي 2015 و2018، أنجبت النساء السوريات في ألمانيا أكثر من 65 ألف طفل.

لكن من المتوقع أن تتابع الجماعات السورية نموها في البلد لأسباب أخرى أيضاً. في السنة الماضية، قدّم حوالى 40 ألف سوري طلب لجوء، وهو عدد صغير مقارنةً بأرقام عام 2015، حين وصلت أكبر موجة من اللاجئين إلى ألمانيا.

يريد عدد كبير من اللاجئين اليوم المجيء إلى هذا البلد لأنهم يواجهون المصاعب في الدول المجاورة لسورية أو على الجزر اليونانية ولديهم أقارب أو أصدقاء في ألمانيا. يستحيل أن نعرف عدد من يواجهون هذه الظروف بدقة. بعد تسع سنوات تقريباً على بدء الحرب الأهلية، لا يزال الوضع كارثياً في سورية، لاسيما في المناطق المجاورة لإدلب وحلب حيث يستمر القتال حتى اليوم.

يحذر المراقبون الدوليون من حصول مجاعة كارثية وتواجه سورية في الوقت نفسه أزمة اقتصادية هائلة وتفاقمت راهناً بسبب تداعيات وباء "كوفيد- 19". تعتبر وزارة الخارجية الألمانية جميع مناطق البلد غير آمنة، لذا مدّد المؤتمر الألماني لوزراء الداخلية قرار وقف ترحيل اللاجئين إلى هناك.

يعيش عدد كبير من السوريين في ألمانيا منذ وقتٍ طويل، لذا يستطيعون هذه السنة أن ينتقلوا من وضع الحماية لفترة محدودة إلى تلقّي إقامة دائمة طالما يُعتبَرون مندمجين في مجتمعهم.

في تلك المرحلة، لن يعودوا بمصاف اللاجئين. يظن الخبراء أن الدفعة الكبرى الأولى من الطلبات ستحصل في عام 2020. لكن بسبب فيروس كورونا، أصبحت قدرة عمل السلطات محدودة وتأجلت المواعيد مع "المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين" والسلطات المسؤولة عن معاملات الهجرة. لكن بدأ الوضع يعود إلى مساره الطبيعي اليوم.

على جميع حاملي صفة اللجوء والراغبين في التحول إلى مقيمين دائمين في البلد أن يلبّوا متطلبات عدة: يجب أن يقيموا في ألمانيا بطريقة قانونية طوال خمس سنوات ويجيدوا اللغة الألمانية بمستوى جيد نسبياً، ويجب أن يكسبوا معظم معيشتهم من دون إعانات وأن يكون سجلهم الجنائي نظيفاً ويقدموا شكلاً من إثبات السكن.

ويجب أن يبقى سبب اللجوء (في هذه الحالة الحرب في سورية) ساري المفعول. من حق الفرد الذي يكسب أموالاً كافية ويتكلم الألمانية بطلاقة أن يقدم طلبه بعد ثلاث سنوات.

يقول مسؤولون في وزارة الداخلية الألمانية، إن 12 ألف لاجئ سوري تلقوا إقامة دائمة بدءاً من منتصف عام 2019. هذا الرقم ليس كبيراً مقارنةً بأعداد الطلبات المُقدّمة حتى الآن هذه السنة. يتكل ثلاثة أرباع السوريين المؤهلين للعمل في ألمانيا على الرعاية الاجتماعية جزئياً أو بالكامل. لكن تتراجع فرصة أن يحصل هؤلاء الأشخاص على إقامة دائمة.

وفق معطيات وكالة التوظيف الاتحادية، حصل 42 في المئة من اللاجئين القادمين من بلدان المنشأ الثمانية الأساسية منذ عام 2015 على وظيفة في نهاية السنة الماضية، لكن تشمل هذه الإحصاءات أيضاً وظائف هامشية ومنخفضة الأجر وبدوام جزئي. ساءت الأوضاع على الأرجح منذ انتشار فيروس كورونا المستجد.

لكن حتى المجموعات التي لم تتعلم شيئاً من اللغة الألمانية ولن تنجح قريباً في اختراق سوق العمل ستبقى في ألمانيا على الأرجح، حتى لو استقر الوضع في سورية.

شوق كبير إلى العائلة

بالكاد تعرفت أمل البرص "41 عاماً" على ابنها موسى في مطار "دوسلدورف" عند وصوله لأخذها. كانا يتبادلان الرسائل النصية والكلام عبر "واتساب" أسبوعياً، لكنها تقول: "الوضع مختلف هذه المرة. يوم وصلتُ إلى المطار، لاحظتُ فجأةً أنه أطال لحيته".

سمحت له أمل بالمغادرة حين كان في الثانية عشرة من عمره، وقد أصبح الآن مراهقاً عمره 16 عاماً. هي تحتاج إلى التعرف على ابنها من جديد: إنه الفتى الذي أعاد بناء حياته في ألمانيا في السنوات الأربع الماضية. لديه أصدقاء لا تعرفهم والدته وهو يتكلم لغة لا تفهمها ويشعر بالراحة في المدينة التي تخيفها. حتى انها لا تعرف المأكولات التي يفضّلها. يقول موسى إنه لا يحب الطعام السوري: "يحتوي هذا الطعام على كميات مفرطة من اللحوم. حتى أنني لا أتحمّل رائحته".

حين حاول أفراد عائلة البرص الوصول إلى ألمانيا عبر تركيا، انقسموا بين سيارتين اتجهتا نحو الساحل، مكان مغادرة مركبهم. كانت أمل مع زوجها في إحدى السيارتَين واثنين من أولادهما، فيما ركب موسى وأنسباؤه في السيارة الأخرى. أوقفت الشرطة التركية السيارة التي تشمل الأبوين، لكن نجح الفتيان في متابعة سيرهم ووصلوا إلى ألمانيا بينما أُعيق مسار بقية أفراد العائلة.

خلال فترة معينة، عاش موسى مع عمه بالقرب من مدينة "لير" في ولاية ساكسونيا السفلى في شمال ألمانيا، لكنه انتقل لاحقاً إلى منزل جماعي بعد خلاف بينهما. في يوليو الماضي، تمكن من جلب والدته واستأجرا منذ ذلك الحين شقة صغيرة في "لير"، حيث يقصد موسى المدرسة الثانوية. كان يرغب في التخرج خلال الصيف، لكن أُقفلت المدارس في الأسابيع والأشهر الأخيرة بسبب فيروس كوورنا. سيكرر موسى الصف التاسع بعد الأعياد، ثم يريد أن يصبح ميكانيكي سيارات.

تنمو أشجار معدودة بين مباني القرميد الأحمر في المجمع السكني وتحمل أجراس الأبواب بعض الأسماء العربية. نادراً ما تغادر أمل المنزل، لكن هكذا كان الوضع قبل انتشار الوباء. يقول موسى: "كنت أطلب منها أن تخرج دوماً لكنها لا تتحلى بالشجاعة الكافية".

تعرف أمل بضع كلمات ألمانية، لكنّ ابنها يجيدها بطلاقة شبه تامة. هي تريد تعلم اللغة لكنها لا تتمتع بالقوة الكافية للتعلم طالما يبقى أولادها الآخرون في تركيا.

قدّم موسى طلبات لِلَمّ شمل أفراد العائلة كلهم. صادقت السلطات الألمانية على التأشيرات لوالديه، لكن لم يحصل عليها أشقاؤه الثلاثة. تبلغ شقيقتهم الصغرى أصيل أربع سنوات فقط. قرر الأبوان أن تسافر الأم إلى ألمانيا كي لا يبقى موسى وحده بعد تلك السنوات كلها. بقي الأب في تركيا مع الأولاد الآخرين.

في بداية يونيو، تلقّت أمل خبراً من "المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين" مفاده بأنها ستحظى بـ"حماية فرعية" في ألمانيا من الآن فصاعداً لأنها "معرّضة لمخاطر كبرى في بلدها الأم". يعني ذلك أنها تستطيع الآن أن تقدم طلباً لِلَمّ شمل عائلتها. لكن لا أحد يعرف كم ستدوم هذه الإجراءات أو إذا كان نجاحها مضموناً.

تبكي أمل كثيراً وتقول: "كلما نتكلم عبر "واتساب"، تسألني ابنتي الصغيرة متى سأجلبها إليّ أخيراً". هي قلقة على طفلتها. منذ بضعة أيام، كانت أصيل تلعب في الشارع وكادت سيارة تدهسها: "أنا أصاب بنوبات هلع منذ ذلك الحين لأنني أخشى أن تتعرض لمكروه قبل وصولها إلى ألمانيا".

تعتبر أمل هاتفها الذكي أهم صلة وصل تربطها بالعالم الخارجي. هي تمضي وقتاً طويلاً في تصفّح فيسبوك وتواكب الوضع في سورية وتركيا.

يقول موسى: "حبذا لو لم تكن أمي تقرأ الأخبار باستمرار عبر فيسبوك. لا يكف السوريون عن نشر صور مريعة من الحرب. إنه وضع محزن. لا أريد أن أرى تلك المشاهد".

تأتي هذه العائلة من إدلب التي تشهد ظروفاً مريعة في الوقت الراهن. يعيش والدا أمل هناك حتى الآن.

تقول أمل: "أنا أصلّي كثيراً. هذا كل ما يمكنني فعله. يحصل كل شيء بإرادة الله. هو وحده يعطيني القوة". راحت تذرف الدموع أثناء كلامها وأضافت: "من دون إيمان قوي، سنهلك حتماً".

يبحث عدد كبير من اللاجئين عن الراحة والمواساة في مساجد ألمانيا، حيث يقابلون أشخاصاً آخرين لهم خلفيات مشابهة وحيث يقدم الأئمة خدماتهم الاستشارية. لكن لا تقصدها أمل لأنها تؤمن بأن مساجد المسلمين يجب أن تكون حكراً على الرجال. هي نشأت في بيئة ذكورية وأنجب والدها 17 ولداً من زوجتَين.

إسلام جديد

يرحّب مسجد النور في "هامبورغ" بالنساء والرجال على حد سواء، لكن لا يُسمَح اليوم لأكثر من 150 مصلّياً بدخول المبنى، بعد تقديم إشعار سابق، بسبب انتشار فيروس كورونا. كذلك، أصبح الوضوء في المسجد ممنوعاً ويضطر كل شخص لجلب سجادته معه ويتم تطهير القاعة بعد كل صلاة.

خُصّصت غرفة علوية للنساء، حتى في الأوقات العادية، وهي تُطِلّ على المحراب. الغرفة واسعة ومشرقة وفيها نوافذ بزجاج ملوّن.

يقول دانيال عابدين، رئيس جمعية المساجد: "قبل انتشار فيروس كورونا، كان هذا المكان يبقى مكتظاً في أيام الجمعة. بعد وصول اللاجئين في عام 2015، زادت أعداد المصلّين في المسجد بنسبة تفوق الضعف. كان 2500 شخص تقريباً يحضرون إلى هنا كل جمعة". في الوقت الراهن، يشاهد معظم الناس الصلاة عبر خدمة البث المباشر على الإنترنت. طوال أشهر، اكتفى الإمام بتقديم النصح عبر الهاتف، لكنه بدأ يأخذ المواعيد في مكتبه مجدداً في الفترة الأخيرة.

هذا المسجد له شعبية واسعة بين السوريين لأن عابدين والإمام يأتيان في الأصل من لبنان. هم يتحدثون اللكنة العربية نفسها تقريباً وتُلقى العظة باللغتَين الألمانية والعربية معاً. يقول عابدين: "مسجدنا جميل جداً ومتعدد الثقافات أيضاً".

منذ أقل من سنتين، انتقل المسجد إلى منطقة "هورن" من موقف سيارات سابق تحت الأرض بالقرب من محطة قطارات رئيسية. يوضح عابدين: "نحن مسرورون لمجيئنا إلى هذا المكان الآن". يقع المسجد داخل كنيسة بروتستانتية سابقة. من الخارج، لا يزال المبنى مشابهاً لأي كنيسة مسيحية، لكن استُبدل الصليب على البرج بنقش عربي لكلمة "الله". أُعيد تصميم الموقع بفضل التبرعات، بما في ذلك أموال من الكويت. يضيف عابدين: "كان ضرورياً بالنسبة إلينا أن نندمج جيداً في هذا الحي. الجميع مرحّب به. نحن المسلمون جزء من هذا المجتمع. يتخذ هذا الوضع منحىً طبيعياً مع مرور الأيام. لكن يجب أن نثبت أنفسنا لتسريع هذه العملية".

يقيم حوالي خمسة ملايين مسلم اليوم في ألمانيا. رسم المهاجرون الأتراك معالم الإسلام في ألمانيا طوال عقود، وأصبح أكثر تنوعاً بفضل اللاجئين. يقول عابدين إن التوازن بين الثقافات تحسّن اليوم.

توافقه الرأي لميا قدور، عالِمة إسلامية من "دويسبورغ" هاجر والداها إلى ألمانيا من سورية خلال السبعينيات. هي مسرورة لأن "الثقافة الإسلامية الأحادية" التي ترسخت في ألمانيا فترة طويلة أصبحت اليوم جزءاً من الماضي. على عكس تركيا، لا يتخذ الدين في سورية طابعاً مؤسسياً قوياً بالقدر نفسه. يخضع الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية "ديتيب" (رابطة مساجد تدير حوالي 900 دار عبادة في ألمانيا) لتوجيهات الحكومة التركية. كذلك، تطغى الأهداف السياسية على الحركة المسلمة التركية "ميلي غوروش".

تقول قدور: "بالنسبة إلى معظم السوريين المسلمين، الإيمان شأن خاص. أعرف عدداً كبيراً من السوريين الأتقياء والمحافظين في معتقداتهم الدينية، لكنهم منفتحون في تعاملهم مع أشخاص من ديانات أخرى". سورية دولة متعددة الانتماءات العرقية وكانت جماعات متنوعة تعيش فيها بسلام قبل الحرب رغم اختلافها العرقي والديني. تضيف العالِمة الدينية: "إنه شرط سابق ضروري لأي اندماج ناجح"!

طموحات لنيل الجنسية الألمانية

يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، كان باب متجر البقالة التي يملكها محمد حناوي مفتوحاً على مصراعَيه. جلس والده وراء صندوق الدفع وراح يدردش مع أحد معارفه. لن يأتي ابنه إلى المتجر في هذه الفترة ويصعب الوصول إليه لأنه منشغل بمسائل أكثر أهمية الآن. في شهر فبراير، قال حناوي إنه يريد تأسيس عائلة في أسرع وقت ممكن لأنه أصبح في عمر العشرين. هو لا يخطط للعودة إلى سورية مطلقاً: "الحرب مستمرة هناك. عائلتي كلها أصبحت هنا وسبق وأسسنا نظاماً معيّناً في حياتنا".

كان محمد يبلغ 15 عاماً حين جاء إلى ألمانيا. لقد أمضى ربع مرحلة صباه في "شليسفيغ هولشتاين" ويتمنى أن يصبح مواطناً ألمانياً في أقرب فرصة.

يُفترض أن يكون حناوي قد اقترب من تحقيق هذا الهدف الآن. إذا كان زواجه مستقراً، قد يحصل على الجنسية خلال سنتين. يقول الأب إن ابنه محمد لم يتزوج من امرأة سورية، بل ألمانية!

* كاترين إيلغر - دير شبيغل

عائلة محمد حناوي كانت من أوائل من انتقل إلى يوترسن... اليوم يقيم فيها نحو 300 سوري

منذ 2010 ارتفعت أعداد السوريين في ألمانيا من 30 ألفاً إلى 800 ألف تقريباً

عدد كبير من اللاجئين يريدون المجيء إلى ألمانيا لأنهم يواجهون المصاعب في بعض الدول الأخرى

بين عامي 2015 و2018 أنجبت النساء السوريات في ألمانيا أكثر من 65 ألف طفل

المهاجرون الأتراك رسموا معالم الإسلام في ألمانيا طوال عقود... وبفضل اللاجئين الجدد باتت صورته أكثر تنوعاً
back to top