التمظهُر الموسيقي واضح في مفاصل رواية «الشتاء في لشبونة»

نشر في 27-07-2020
آخر تحديث 27-07-2020 | 00:04
يدركُ المتلقى في رواية "الشتاء في لشبونة" للكاتب الاسباني أنطونيو مولينا وجود التواصل القائم بين النص والموسيقى، بمجرد أن يقع النظرُ على صورة الغلاف، وهي عبارة عن نوتة موسيقية، ومن ثمَّ يستعيدُ الراوي في مفتتح الرواية لحظة لقائه من جديد ببيرالبو في احدى الحانات، مشيراً إلى من يرافقه، وهما عازف كونترباص وعازف درامز. ومما يقوله يفهمُ بأنَّ الموسيقى التي نمت الى سمعه قد ذكرته بصديقه لأنَّ ملامح بيرالبو لم تعدْ كما عرفها، كما أن الاسم أصبح مختلفاً فيدعى عازف البيانو جياكو دولفين. وما يلفت انتباه الراوي هو النظرة الصارمة من السخرية واللامبالاة لدى بيرالبو. وهذا ما يستشفُّ منه مرور هذه الشخصية بأطوار مختلفة، وينقلُ الراوي فحوى الكلام المتبادل بينهما، إذ يخبرُ عازف البيانو بأنّ فلورو بلوم صاحب حانة الليدي بيرد قد عاد إلى قريته حيث تزوج امرأة قد أحبها وهو في الخامسة عشرة من عمره، ومن هنا تُشرع ضلفات الرواية على شخصيات وقصص جديدة.

بناء الحدث

بعكس النصوص الروائية التي تختزنُ صفحاتها الأولى نواة القصة الرئيسية، وما تكون الفقرات التالية سوى امتدادٍ لما يردُ في مستهلها، فإنَّ أنطونيو مولينا يتدرجُ في الكشف عن شخصيات عمله ودورها في بناء الحدث، وبذلك ينحو السردُ في مفاصله الأساسية منحىً تصاعدياً وتتوزعُ المادة المروية على ما يقصهُ الراوي بنفسه، وهو المشاركُ في القصة وما ينقلهُ عن عازف البيانو، وهذا مع المقاطع الحوارية الخاطفة التي تقطعها تعليقات الراوي، مثلما ترى ذلك في الملفوظات التي تعبرُ عن رأي سانتياغو بيرالبو بشأن الموسيقى وما يميزها عن الكتابة والرسم، فبرأيه من يكتبُ أو يرسمُ يراكم الماضي على أكتافه، بينما يغيبُ الماضي لدى الموسيقي حالما يتوقف عن العزف يبدأُ الفراغ، ويعقبُ الراوي على كلام بيرالبو بوصف شخصية الأخير عندما كان يعزفُ في الليدي بيرد فتعامله مع الموسيقى يضاهي تصرف رجل مغرم يستسلم لشغف يستبدّ به، والحال هذه تتوالى الإشارة إلى شخصيات جديدة ويلمحُ الراوي بأنَّه قد تواصل مع لوكريثيا، وسألته الأخيرة عن بيرالبو، لافتاً إلى أن مظهرها كان مظهر من تنازل مرغماً عن كبرياء، وما يلبث أن يعودَ صوت بيرالبو قائلاً: "تخلصتُ من ابتزاز السعادة"، هنا يتدخلُ الراوي موضحاً هوية صاحب القولِ ناقلاً صورةً عن مستواه الشكلي، وعليه يتحول الخطابُ نحو صيغة ذاتية؛ إذ يشير الراوي إلى انتظاره لما قد يذكرهُ بيرالبو حول لوكريثيا، وما يقولهُ عازف البيانو عن التخلص من السعادة والحب هو بمثابة إجابةٍ ضمنية على ما يدورُ في ذهن الراوي، وينتهي الفصل الأول بتقديم نمط حياة بيرالبو، وهو يعيشُ بالموسيقى ويعزف في الملاهي ببرشلونة ومدريد، مقيما بغران فيا، وما يتلفظ به الراوي عن بيرالبو بأنَّ لديه القصة يثير التوقعات.

التشويق والغموض

الموسيقى هي محرك السرد والحلقة الواصلة بين وحدات الرواية، ما إن يسمع الراوي إسطوانة لبيلى سوان عازف البوق الذي شاركه بيرالبو ببيانو سلس في إنجاز مقطوعتين يحيلُ عنوانهما إلى أسماء المدن "لشبونة" و"بورما"، حتى يتساءل: بماذا يشعر لو أحب امرأة باسم "بورما"، ومن ثمَ يلحق ببيرالبو في الفندق، ويلتبسُ الأمر على الموظف عندما يستفسرُ عن الموسيقي، ذاكراً اسمه القديم، ويريدُ المؤلفُ إضفاء التشويق والغموض، وذلك بالاعتماد على صيغ سردية متنوعة وتأسيسِ جزء من عالمه الروائي على بنية المدونة، ويعهدُ ليبرالبو برزمة من الرسائل المطوية إلى صديقه، ولم يكتبُ على هذه الرسائل إلا حرف "ل" بخط أنثوي مائل، موضحاً أن مراسلته مع لوكريثيا قد استمرت لسنتين، ويُذَكرُ ما يعيشهُ ليبرالبو من الوحدة والعبث الراويَ بأغنية لشبونة، هنا يتخذُ الخطاب صيغة حوارية، ويبادرُ الراوي بالسؤال من محدثه عما اذا زار لشبونة، ويأتي الجواب من الأخير بالتأكيد، معقباً بأن المرء يصل إلى الأماكن عندما لا تعود تهمه، وحين يبدي بيرالبو استغرابه عما يعرفه الراوي عن لقائه بلوكريثيا في المدينة، يقولُ إنَّ المقطوعة الموسيقية أوحت إليه بذلك الاحتمال، ويسترسلُ الراوي في استعادة تفاصيل لقائه المسبق بلوكريثيا والإبانة عن ملامحها، التي تنمُّ عن مشاعر متناقضة، وما يكون التواصل بين الاثنين إلا عن طريق مالكولم المعروف بالأميركي، وهو سمسار التحف واللوحات الفنية، الذي ترافقه زوجته إلى مدينة سباستيان، ويتزامنُ ذلك مع ما يمرُ به الراوي من ضائقة مالية، الأمر الذي يدفع به لبيع لوحاته لمالكولم مُقابل مبلغ لا يأخذ سوى أقل من نصفه، غير أنَّ القصص الفرعية والأحداث الجانبية والشخصيات العالقة بأعطاف السرد لا تسحبُ الضوء مما يشكل محور الرواية، وهو قصة لوكريثيا وبيرالبو التي تبدأُ على إيقاع الموسيقى في الليدي بيرد، حيث تماهت نظرات الاثنين في أثير المكان.

بعد خمسة عشر يوماً على هذا اللقاء الموسيقي تغادرُ لوكريثيا برفقة زوجها إلى برلين، وتعطي عنوانها لبيرالبو واعدةً إياه على المراسلة قبل ذلك، وقد طارد مالكولم العشيقين. ومن جانبه أدرك بيرالبو خطورة المبارزة مع الداهية المتورط في التهريب، ويحاول بيرالبو نسيان الحب، ولكن مع قراءة الرسالة التي كتبتها لوكريثيا على خريطة لشبونة ورؤيته لكلمة بورما وتأكيد لوكريثيا على عودتها للمدينة يتضاعفُ الغموضُ أكثر، وتتغلفُ القصة بالألغاز عندما تظهر شخصية توسين مورتون الذي تعرف على لوكريثيا في برلين، وأخبرته عن طبائع صديقها بيرالبو، ويتوددُ مورتون إلى الموسيقي، فبنظره أن مالكولم ليس برجل مناسب للوكريثيا مادام عازف البيانو الذي بقي في اسبانيا على قيد الحياة، وعندما تعودُ لوكريثيا إلى سان سباستيان يخبرها بيرالبو بأنه قد عرف من خلال بيلي سوان بأنها تحمل مسدساً وصورة لسيزان، ومما يرشَحُ من محتوياتِ الصفحات اللاحقة يتبين أنَّ تلك الصورة هي ما تضعُ لوكريثيا على خط المواجهة مع كل من مالكولم ومورتون.

back to top