مقالات الاستشراف الثلاثة عشر: هل أرّقها التأمل فلاذت بالأمل؟

نشر في 14-07-2020
آخر تحديث 14-07-2020 | 00:35
 ماجد بدر جمال الدين على مدى أسبوعين، استضافت "الجريدة" أقلام ثلاث عشرة شخصية كويتية من أهل الفكر والإدارة والاقتصاد، استشرافاً لأوضاع كويت ما بعد الجائحة ثلاثية الأنياب، التي تهددت "الحياة والمحيا"، حسب تعبير الصديق الدكتور محمد الهاشل.

ورغم ما أمتعنا به "الضيوف" من حصافة ومعرفة وغيرة وطنية، لابد لي من الإقرار بأن مهمتهم كانت أكثر صعوبةً وأكثر حساسيةً من أن تبلغ غايتها بالأدوات والمؤشرات المتاحة، ذلك أن الدول الصناعية قد امتلكت من النظم والسياسات والسلاسل الزمنية ما يؤهلها لتوظيف "علم المستقبليات" في استشراف المستقبل بدرجة مقبولة من الدقة. أما الدول النامية- ومنها الكويت- فلا يزال معظمها بعيداً عن اللحاق بهذا الركب.

إن الدراسات المستقبلية يجب أن تعرف عوامل تشكيل الماضي دون أن تسلِّم بأن التاريخ يُعيد نفسه، وينبغي أن تتعرف على معطيات الحاضر دون أن تقع أسيرة الواقع، ولابد أن تجرؤ على الاستقراء والتنبؤ دون أن يجنح بها التصور إلى الحلم. أما إذا كانت معرفتنا بالماضي ناقصة، ومعلوماتنا عن الحاضر قاصرة، وملكة التصور لدينا ضبابية راجفة، فإن استشرافنا للمستقبل سيعاني درجة عالية من عدم اليقين، تجعله أقرب إلى عالم التنجيم والغيبيات منه إلى علم المستقبليات.

شعرت أني مدين بهذا التقديم لكل الأفاضل أصحاب المقالات الثلاثة عشر، وأعود بعده لأعرض- بإيجاز يكاد يكون مخلاً- ما أعتقد أنه سمات مشتركة بين هذه المقالات.

أولاً: يضم ضيوف "الجريدة" أربعة من أهل الاقتصاد، وستة من أهل الإدارة العامة، وثلاثة تفرغوا للعلم والفكر وخدمة المجتمع، علماً بأن الحد الفاصل بين أهل الإدارة وأهل الاقتصاد رفيع جداً في معظم الحالات، فللاقتصاديين منهم باع طويل في الإدارة العامة، وللإداريين منهم خبرة غنية في الاقتصاد.

ثانياً: ليس بين "المدعوين" مَن يمثل العاملين حالياً في الوسط الأكاديمي. ومع اعتقادي أن آراء هؤلاء- لو حضروا- ما كانت لتختلف كثيراً عن آراء الضيوف الحضور، فإني أجزم أن مساهماتهم كانت ستزيد هذا العصف الذهني عطاءً وألقاً.

ثالثاً: توزعت المواضيع المُدرجة أدناه على المقالات الثلاثة عشر حسب التواتر التالي:

* إجماع أو ما يقاربه على أن الجائحة- رغم ثقلها وتكاليفها- تحمل فرصة كبيرة للتغيير نحو الأفضل.

* إجماع أو ما يقاربه على حتمية الإصلاح الاقتصادي والمالي بأبعاده المختلفة.

* حظي كل من موضوع إصلاح التركيبة السكانية (التكويت)، وموضوع محاربة الفساد باهتمام تسعة مقالات.

* استقطب "التعليم والتدريب والبحث العلمي" اهتمام سبعة مقالات.

* وقفت سبعة مقالات طويلاً أمام موضوع إصلاح الإدارة العامة.

* تطرقت خمسة مقالات إلى شؤون سياسية عديدة ومهمة.

* نالت العلاقات الدولية اهتمام أربعة مقالات من خلال تطرقها إلى التعاون الخليجي، ووحدة مصير الكون.

* مواضيع "الحس الأمني"، و"البيئة"، و"الثقافة والفنون"، و"المجتمع المدني"، أتى على ذكر كل منها مقال واحد فقط.

* لم يتطرق أي مقال إلى مستقبل الديمقراطية ونظامها، والدستور ومؤسساته، وحقوق الإنسان وتطورها في الكويت. كما سقط من كل المقالات الحديث عن التعاون العربي، اللهم إلا ما ذكره مقال السيدة فارعة السقاف عن فروع لوياك ومنصاتها في الأردن ولبنان واليمن، وإلا ما أفرده السيد علي الموسى في مقاله من مساحة للبنان، حتى أنه اختتم المقال بالدعاء له "بأن يخرج بعافية من المتاعب التي يمر بها".

رابعاً: الأهم من هذا كله في اعتقادي- ولا أبرّئ نفسي من نزعة التسلق على قامات الكبار- أن أياً من الأفاضل أصحاب المقالات لم يقترف إثم "مقامرة التنبؤ"، أو يقارب خطر "مغامرة التصور"، واستطاعوا جميعاً أن يتفادوا هذه وتلك بجرعة عالية من الدبلوماسية الراقية التي عُرِف بها الكويتيون من أهل الإدارة العامة، ولم يتخلف عنهم إخوانهم أهل الاقتصاد.

لقد اكتشفوا كثافة الضباب الذي يحجب الرؤية، وتأكدوا من صعوبة القرار الذي يحتاج إليه الإصلاح، وعرفوا إلى أي مدى تعمقت الأزمة، وتعقدت نتيجة السياسات المتراكمة غير الموفقة، والتأخر الطويل الطويل في تصحيحها، فتنكبوا التأمل، ولاذوا بالحلم والأمل فيما يجب أن ينتهي، وما يجب أن يستجد، وما ينبغي أن يتطور، وتركوا لذكاء القارئ أن يتعرف على ما بين السطور، وما احتفظت به الصدور. ولئن كان مقال الأخ جاسم السعدون هو الأقرب إلى "ارتكاب التنبؤ" حين تحدث عن حقبة مختلفة من انحسار الموارد السهلة، وارتفاع مستوى الاحتياجات، واشتداد الضغوط العالمية والإقليمية والمحلية، فإن أستاذي الدكتور محمد الرميح كان الأكثر واقعية وشفافية في آن معاً حين اختار لمقاله عنوان "كويت الغد التي نحلم بها أن تكون"، وتعمّد ألا يقول "التي نتوقع لها أن تكون".

إنني على يقين أن كلاً من كُتّابنا الأفاضل يملك من المعرفة والخبرة والقدرة ما يؤهله لاستشراف صورة الكويت بعد الجائحة، وبكثير من الحرفية والموضوعية، وإنني على يقين أن كلاً منهم قد حاول ذلك إلى أن اصطدم بما أرّقه وأرهقه، فوجد أن من الحكمة التلميح بدل التصريح، وأن من الحصافة أن يلوذ برغد الحلم وطمأنينة الأمل. ولو كنت- شخصياً- أملك من القامة ومن القدرة ما يؤهلني لأن ألتحق بظعنهم لاستلهمت حكمتهم وترسمت أقلامهم.

ختاماً: أنسج على منوال المفكر الأميركي ناعوم شومسكي فأقول:

"مخطئ من يتمنى أن تعود الكويت إلى الوضع الطبيعي الذي كان سائداً قبل الجائحة، لأن ذلك الوضع لم يكن طبيعياً أصلاً".

back to top