فؤاد الزويد: قانون مخاصمة القضاء يفقد القضاة اطمئنانهم

• لا يجوز إشغال القاضي بالدفاع عن نفسه ومعظم المحكومين يعتقدون أنهم ضحايا
• الأصل في القانون عدم مساءلة القضاة تجنباً لاستخدامها في التشهير بهم

نشر في 02-07-2020
آخر تحديث 02-07-2020 | 00:05
وكيل محكمة التمييز، المسشار فؤاد الزويد
وكيل محكمة التمييز، المسشار فؤاد الزويد
أكد وكيل محكمة التمييز، المسشار فؤاد الزويد، أن قانون مخاصمة القضاء الذي أقره مجلس الأمة أخيرا، يُفقد القاضي وأعضاء النيابة العامة اطمئنانهم في عملهم، ويلقي في روعهم الهيبة من التصرف والحُكم، لأن معظم المحكوم عليهم يعتقدون أن الحق في جانبهم، وأنهم ضحية لخطأ القاضي، ولو ترك القاضي تحت تهديد دعاوى التعويض، فإنه لن يشعر بالاستقلال في الرأي عند إصداره أحكامه.

وأضاف المستشار الزويد، في دراسة قانونية تنشرها «الجريدة» أن القاضي سينشغل بالدفاع في هذه الدعاوى عن أداء واجبه، وينتقل بين المحاكم موزعا جهده ووقته وماله ليدفع عن نفسه المسؤولية، مما يؤدي الى تعطيل عمل السلطة القضائية، فضلا عن أنه قد تقام دعوى المخاصمة أثناء نظر القاضي المنازعة في دعوى المخاصمة، فإذا قضى في الأخيرة لمصالحته فإنه لا بدّ أن يستشعر الحرج في الفصل بالمنازعة التي كانت المخاصمة بسببها، لأنه من غير المتصور استمراره ليدلي برأيه في خصومتها، لأن ذلك قد يشكك في قضائه، وهو ما قد يرتب عليه تعطيل الفصل في القضايا وتراكمها، وفيما يلي نص الدراسة:

تعدّ السلطة القضائية هي الحامية لحقوق الأفراد وحرياتهم، وهي التي تعطي للقانون فاعليته وإلزامه، إذ بغير هذه السلطة لا يعدو القانون أن يكون سوى قواعد نظرية لا يوجد من يحقق له الصفة الإلزامية الآمرة، ولضمان حياد القاضي واستقلاله في عمله حرصت الدساتير على ترديد مبدأ استقلال القاضي، فأحاط المشرّع أعضاء السلطة القضائية بشتى الضمانات، ووضع الإجراءات التي تمنع الوقوع في الخطأ، كما نظّم طرق الطعن في الأحكام، حتى يكون الحكم الصادر عنوانا للحقيقة ومظهرا لها.

عدم المساءلة

ولما كان الأصل في القانون هو عدم مساءلة أعضاء السلطة القضائية عمّا يصدر منهم من تصرفات أثناء عملهم، لأنهم يستعملون في ذلك حقا خوّله لهم القانون، وترك لهم سلطة التقدير فيه، وذلك ما لم يقرر المشرع مساءلتهم على سبيل الاستثناء إذا انحرفوا عن واجبات وظيفتهم، وأساؤوا استعمالها بأن يجيز الرجوع بالتضمينات في هذه الحالات بدعوى المخاصمة، والحكمة من ذلك توفير الطمأنينة لأعضاء السلطة القضائية في عملهم، وإحاطتهم بسياج من الحماية يجعلهم في مأمن ممن يحاول النَّيل من كرامتهم وهيبتهم، وحتى لا تتخذ مقاضاتهم وسيلة للتشهير بهم.

كما أحاطهم المشرّع بقواعد وضمانات معيّنة فيما يتعلق بالتحقيق معهم وتحريك الدعوى في مواجهتهم ومخاصمتهم عن الجرائم والمخالفات التي تنسب إليهم، فأخضع هذه الطائفة من الأشخاص لقواعد إجرائية خاصة تختلف عن تلك المطبّقة على سائر الأفراد العاديين، ولم يفعل المشرع ذلك خرقا لمبدأ المساواة، أو لمجرد تميّز هذه الطائفة عن غيرها، وإنما قرر لهم هذه القواعد والضمانات حماية للسلطة التي يمثّلونها، ألا وهي السلطة القضائية.

كما اختصهم بقواعد خاصة في شأن الإجراءات التأديبية لأعضاء السلطة القضائية، إذ إن من الواجبات الأساسية لهم لا تمثّل الحد الأدنى لما يلتزم به القاضي، ويترتب على الإخلال بها مساءلته تأديبيا، وإنما يشمل ايضا بعض القيم والتقاليد القضائية والأخلاقيات الإدارية التي تؤثر في النظام العام القضائي، وهي واجبات يتعيّن على القاضي التزامها، ولو لم ينص عليه القانون حتى ولو كان عدم قيامه بهذه الواجبات لا يشكّل مخالفة تأديبية.

ومما لا شك فيه أن أيّ تصرّف للقاضي يشكّل خروجا على العُرف القضائي أو القيم والتقاليد القضائية، فإنه يعتبر مخالفة تأديبية تعرّض من يرتكبها للمسؤولية التأديبية، تقوم بها جهات مختصة وفق القانون، لتقديمه للمحكمة المختصة التأديبية للقضاة وأعضاء النيابة العامة، وتوقيع الجزاء الملائم وفق متطلبات وظروف الدعوى، ومن بين هذه الإجراءات التي وردت على سبيل الحصر، هي اللوم أو العزل، وبالأخيرة تنتهي ولاية القاضي ووكيل النيابة العامة من عمله.

أما في حالة توافر أركان المسؤولية المدنية دون الجنائية قبل أعضاء السلطة القضائية، وتسبب سلوكه المنحرف في إحداث إضرار بالغير، فإن الجزاء المترتب عليها هو التعويض المادي والأدبي عن الخطأ المهني الجسيم والغش وحالة إنكار العدالة.

ولما كان الأصل في العمل القضائي أنه يؤدي وظيفته في إزالة تجهيل المراكز القانونية باليقين الذي تحققه حجية الأمر المقضي التي هي نتاج عمل القاضي، وحتى يضمن المشرّع هذا العمل جعل التقاضي على درجتين مبدأ أساسيا مرتبطا بالنظام العام، فإن أخطا قاضي أول درجة، تدارك قاضي الدرجة الثانية هذا الخطأ أو القصور أو الفساد الذي اعتور ذلك العمل، وكلل المشرّع ذلك بضمانة أخرى، فأجاز الطعن على حكم محكمة الدرجة الثانية أمام محكمة عليا (محكمة التمييز)، ومهمتها الأساسية هي مراقبة ذلك الحكم إذا اعتوره قصور في التسبيب أو فساد في الاستدلال، أو مخالفة للثابت في الأوراق أو تناقض بما يبطله أو كان قد خالف القانون أو أخطأ في تطبيقه، ورتّب على تمييز الحكم لأي من هذه الأسباب إلغاءه وما يترتب عليه من آثار، أوكل الى تلك المحكمة أن تفصل في الحكم بقضاء جديد يتلافى العيب الذي اعتوره، وقد يخالف قضاء هذه المحكمة الحكم المطعون فيه في النتيجة التي انتهت اليها، وهي بلا شك ضمانة للمتقاضي حتى يصل الحق الى صاحبه، وحماية له من أي جور أو زلل، وهي وسيلة فعالة وناجزة في إصلاح الأخطاء التي قد يقع فيها القاضي دون حاجة الى القول بمخاصمته وما يترتب على ذلك القول من آثار وخيمة يتعذّر فيما بعد رأب الصدع الناتج عنها.

المقاضاة المدنية

ونلفت الى أن رجل القضاء ايا كان مركزه او وظيفته يجوز مقاضاته مدنيا اذا ارتكب خطأ سبب ضررا للغير فيما يخرج عن نطاق العمل الوظيفي بالمعاملات المدنية والتجارية، كما اذا اجرى بعض المعاملات وأخل بشروط التعاقد، فهو في ذلك شأنه شأن اي مواطن يرتبط بمعاملات مع الغير ويجري تصرفات قانونية، كما انه قد يختلف مع زوجته او اولاده، ففي كل هذه الاحوال تتم مقاضاته وفقا للقواعد العامة، وايضا اذا وقعت منه جريمة جنائية فيعاقب عليها شأنه شأن اي فرد آخر، متى رفعت عنه الحصانة القضائية او كانت الجريمة مشهودة او العمل القضائي الذي يقوم به فهو يخضع لنظم خاصة نصت عليها القوانين، إذ لا يجوز مقاضاة القاضي بسبب عمله لان القاعدة هي عدم مسؤولية القضاة عما يصدرونه من احكام، وهو ما استقر عليه قضاة محكمة التمييز في الكويت، حتى لو سببت الضرر للغير، وانما يجوز للمضرور ان يطعن في عمل القاضي بطرق الطعن القانونية.

كما انه من المستقر عليه ان لكل تشريع حكمه تفرضه ودواعي تقتضيه وتكون هي الباعث على اصداره وتنظيمه وتقنين احكامه فاذا انتفت تلك الحكمة او تختلف مقتضيات اصداره فإن اصداره يكون مجرد لغو لا محل له، وذلك ان التشريعات لا تبنى على مجرد افتراض الواقع بل ان الواقع هو الذي يفرض نفسه فيكون التشريع لمواجهة ضرورة ملحة اليه او حاجة ملحة تتمثل في ظاهرة متفشية تحتاج الى علاج وحلول تشريعية.

واذ كان ذلك وكانت ظاهرة وقوع غش او تدليس او ضرر او خطأ مهني جسيم من رجل القضاء- سواء كان قاضيا او عضوا بالنيابة العامة- لا تعد ظاهرة متفشية بينهم، وان وجدت مثل هذه الحالات فانها لا تعدو ان تكون مجرد حالات فردية نادرة الوقوع وتواجه تأديبيا في حينها بما خوله المشرع للمجلس الاعلى للقضاء من سلطان في هذا الشأن (المواد 35-49 من قانون تنظيم القضاء) فضلا عن انه يحق لذوي الشأن الطعن بطرق الطعن المناسبة حتى توضع الامور في نصابها الصحيح ولندرة مثل هذه الحالات وعدم تفشيها لا يوجد إحصاء بحصرها، مما يدل على عدم قيام خطر يستوجب مواجهته تشريعيا لانتفاء الضرورة الملزمة.

من ناحية اخرى، فإن المشرع الكويتي قد فطن الاخذ بما يطلق عليه بالمسؤولية المدنية للقضاة او دعوى مخاصمة القاضي، فآثر الا يأخذ بهذا النظام انسياقا وراء تشريعات بعض الدول مكتفيا بما تضمنه القانون من نصوص شملت صلاحية القضاة وردهم وتنحيتهم (المواد من 102-111 مرافعات) ومن ثم قدر المشرع الكويتي عدم ملاءمة هذه النصوص فلم يفعلها تشريعيا، إذ إن من شأنه اقرار دعوى مخاصمة القاضي -ولو على اساس الخطأ المهني الجسيم- ان يفقد القاضي واعضاء النيابة العامة اطمئنانهم في عملهم، ويلقي في روعهم الهيبة من التصرف والحكم، لانه مما لا ريب فيه ان معظم المحكوم عليهم يعتقدون ان الحق في جانبهم وانهم ضحية لخطأ القاضي، ولو ترك القاضي تحت تهديد دعاوى التعويض فانه لن يشعر بالاستقلال في الرأي عند اصداره احكامه، كما انه سينشغل بالدفاع في هذه الدعاوى عن اداء واجبه، وينتقل بين المحاكم موزعا جهده ووقته وماله ليدفع عن نفسه المسؤولية، مما يؤدي الى تعطيل عمل السلطة القضائية، فضلا عن انه قد تقام دعوى المخاصمة اثناء نظر القاضي للمنازعة في دعوى المخاصمة، فاذا قضى في الاخيرة لصالحه فانه ولابد ان يستشعر الحرج في الفصل في المنازعة التي كانت المخاصمة بسببها، لانه من غير المتصور استمراره ليدلي برأيه في خصومتها، لان ذلك قد يشكك في قضائه، وهو ما قد يرتب عليه تعطيل الفصل في القضايا وتراكمها، ومن الملاحظ في بعض البلدان التي تأخذ بنظام المخاصمة للقاضي ان الغالب والاعم من الدعاوى المقامة التي ترفع تكون نتيجة فهم خاطئ من الخصوم، ويحكم فيها لصالح القاضي الذي يكون قد ادعى فرعيا قبل خصمه بالتعويض، إذ يرى ان كرامته قد اهدرت ومس في شرفه واعتباره ومكانته الوظيفية، وهو امر بلا شك لا يؤخذ عليه او يعاب عليه فيه فقط هبط به المشرع من منصته العالية ليكون طرفا في خصومة، واذا كان من المألوف ان يخالف الفرد العادي ما يفرضه عليه القانون من واجبات فإنه من غير المألوف ان يخالف القاضي ووكيل النيابة واجبات وظيفته، إذ إنه هو القائم على حل مشاكل المتقاضين ومساءلتهم، فما اغرب ان يخضع هو شخصيا للمحاسبة والمساءلة، ومع ذلك فإن رجال السلطة القضائية بشر يخطئون ويصيبون الا ان خطورة المساءلة فيما يتعلق بأعضاء السلطة القضائية احدى سلطات الدولة المستقلة والمحايدة والتي تكفل حقوق الافراد وحرياتهم.

خلاصة القول ان المحكمة والدواعي التي تفرض من قواعد مخاصمة القاضي منتفية -في الوقت الحالي- وليست هناك دواع تقتضي اصدار مثل هذا التشريع- وعلى فرض اقرار المشرع فإنه يجب ايجاد نظام اجرائي قضائي يكفل اقامة توازن دقيق بين متطلبات المصلحة العامة وبين حق القاضي في توفير كل الضمانات والاجراءات التي تؤكد له الاستقرار القانوني والنفسي، وتدفعه الى التفاني في العمل الجاد وصيانة كرامته الوظيفية فأصبح من الضروري اختيار افضل الانظمة القضائية الملائمة لتحقيق هذا الهدف، ويضع الضمانة الفعالة لاحترام القاضي وواجبات وظيفته.

إشكاليات وتوصيات مقترحة

تكمن إشكالية مبدأ محاسبة القضاة في عدم اتفاق التشريعات على الجزاءات المترتبة على مخالفة اعضاء السلطة لواجبات اعمالهم وصدور اخطاء شخصية قبل الافراد ومدى اتفاق هذه الجزاءات مع طبيعة العمل القضائي لذلك نرى الاخذ بالتوصيات الآتية:

اولا: وضع نظرية متكاملة مخاصمة أعضاء السلطة القضائية.

ثانيا: معالجة القصور التشريعي في القوانين المقارنة محل الدراسة العربية والاجنبية.

ثالثا: تنبيه المشرع الوطني حول اتخاذ اجراءات خاصة لمخاصمة القاضي الوطني والاجنبي على السواء، وبما يكفل له ضمانات اساسية تخفظ مركزه الوظيفي والاجتماعي.

رابعا: تحديد مدى نطاق مسؤولية الدولة عن اخطاء السلطة في الدعاوى المدنية.

إذا تُرك القاضي تحت تهديد دعاوى التعويض فلن يشعر باستقلال رأيه عند إصدار الحكم

من الضروري وضع نظرية متكاملة لمخاصمة أعضاء السلطة القضائية
back to top