الشاعر محمد الصالحي: نقد قصيدة النثر العربية زاد الالتباس التباسا!

مؤلف كتاب «شيخوخة الخليل» يدعو لإعادة نبش علائق الوزن بالعروض والإيقاع

نشر في 01-06-2020
آخر تحديث 01-06-2020 | 00:03
يعد المغربي محمد الصالحي (57 عاماً) واحداً من أهم الشعراء العرب حالياً، ويرى أن قصيدة النثر مدعوّة لتأسيس قوانيها الخاصة، وعلى النقد أن يستنبط هذه القوانين من بنية النص، لا البحث عن قوانين لإسقاطها عليها.
وفي كتابه "شيخوخة الخليل" يشير إلى أن ضآلة المكوّن الصوتي في قصيدة النثر يُوجِب البحث عن بقية مكونات- نسيج القصيدة في ذاتيْ الشاعر والقارئ.
وفي حوار أجرته معه "الجريدة" من القاهرة، قال الصالحي إن النقد السائد حول قصيدة النثر العربية زاد الالتباس! وفيما يلي نص الحوار:
• في عام 2011 قلت إن قصيدة النثر مدعوة لتأسيس قوانيها الخاصة، كيف تراها الآن بعد مرور هذه السنوات؟

- لقد عكست الكتب الكثيرة التي وُضعت عن قصيدة النثر العربية، في أغلبها الأعم، ما كانت هذه الأخيرة مسرحاً له من صراعات أيديولوجية وعقدية وفكرية، أكثر مما لبت نداء النص، وقدمت دراسات حول شعريته تروم البحث للقصيدة تلك عن واقع شكلي يُوحد متناثرها، ويقبض على ما يؤكد انتماءها إلى الشعر، ويربو ما وُضع عن قصيدة النثر العربية على الستين كتاباً، احتكمت في مجملها إلى غياب الوزن العروضي، في تحديد المتن المتناوَل، بدل البحث عن حقيقة شكلية يضمن لهذا المتن هوية إيقاعية- أجناسية واضحة.

وكان حرياً بالمؤلفات تلك الانطلاق من الواقع النصي المعطى بصفته قصيدة نثر، ثم البحث عن جامِع إيقاعي، وعن مقومات عابرة للنصوص، لتنتهي بعد ذلك، إلى تحديد طريقة الانبناء، انبناء كل نص على حدة، ثم انبناء المتن في مجموعه، وصولاً إلى السؤال الأهم: ما الجامع بين هذه النصوص يخوِّل لنا وضعها في ذات الخانة، خانة قصيدة النثر؟

قصيدة النثر

• كيف يتعامل النقد مع قصيدة النثر في ظل تنامي عدد الشعراء الذين يكتبونها؟

- استكانت النظرية الشعرية العربية حول قصيدة النثر لطبيعة الكميات اللفظية والكميات المعنوية في النص الشعري العربي السائد، وهي الاستكانة التي كانت من وراء التسمية: كتابة الشعر نثراً – النثيرة – القصيدة الخرساء – القصيدة الخنثى... وهي تنويعات على ذات المعنى: الاحتكام إلى الصوت في تعريف الشعر، والقصيدة وتحديد حدودَيهما.

لقد قصر النقد السائد الوزن على الجانب الصوّتي، وهو ما يوجب إيجاد نظرية للوزن ناهضة على المعنى ببُعديه ومَدماكيةِ امتداداته الصوتية – الدلالية. وغياب دراسات وأبحاث عن حجم النص، وعن الشذرة خصوصاً، جعل جل النقد العربي يقول بغياب المكوِّن الصوتي في قصيدة النثر، ويحشرها بناء على ذلك، في خانة الشعر الدلالي، اهتداء باجتهادات الشعرية العربية، خصوصاً اجتهادات جون كوهن.

النص الزئبقي

• ما زالت قصيدة النثر تعاني أزمة المصطلح (التسمية)، كيف تسمي الشعر قصيدة نثر بقلب مطمئن؟

- وجد المتلقي الذي كانت أذنه واسطة بينه وبين النصّ، نفسه أمام نصٍ مخَاتل تعجزُ المقاربة السمعية عن إدراك مكوناته الإيقاعية متعددة المشارب، وسبب ذلك أن البؤرة الإيقاعية، في مثل هذا النص الزئبقي، وإن كانت مُدرَكة بالقوة، فإنها ليست مصوغة بالفعل، أي لم تُصغْ لسنياً، وتتوارى الأوزان العروضية، وتشحب الموازنات الصوتية ويخف رنينها أو يزول، فيضطر الإنشاد – الأداء، أي التأويل، إلى استكمال ما غاب من صورٍ صوتية، فكما غابت عن القصيدة الصور الصوتية، تطلب التلقي مهارة أكبر. واستشكال هذا اللغز، تحديداً، هو ما يفسر ازورار النقاد عن قصيدة النثر، وجعل النقد في الشعريات كلها، يضرب صَفحاً، أو يكاد، عن هذا النص، وإن ضآلة المكوّن الصوتي في قصيدة النثر يستوجب البحث عن بقية مكونات– نسيج القصيدة في ذاتيْ الشاعر والقارئ، وهو ما لم ينهض به النقد السائد حتى اليوم. وتحايلاً على هذه المهمة الصعبة، وضع هذا النقد قصيدة النثر في نقطة تماس ملغزة بين النثر والشعر.

شعرية النص

• هل لقصيدة النثر مقومات أساسية يجب أن تتوافر فيها مثل "المكوّن الإيقاعي"، الذي تحدثت عنه في "شيخوخة الخليل"؟

- النقد مطالب، لفك شفرة قصيدة النثر، بتوزيع مهمة نشوء شعرية النص بين الأقطاب الثلاثة: الشاعر والنص والباث والمتقبل، وإن الجو العام يؤثث زوايا النص أكثر مما تفعلُ الكلمات، ويستطيع إيقاع الخطاب أن يؤكد ويحدد ويُخبِر، كما يجعلنا نسمع شيئاً آخر غير المقُول، ومن هنا يبطُل حديث معظم النقد العربي الذي يتناول "الطول" و"القِصَر" عن "قصيدة التفاصيل" و"قصيدة الإيجاز"، مستحدثاً لهذه الأخيرة ترسانة من المفاهيم غير ذات مُسوّغٍ لها إبستمولوجي، كالتقشف والصمت والحذف والمحو، وتضع قصيدة النثر التحليل في مأزق، إذ تستحوذ المكونات النصية غير اللفظية على النصيب الأكبر من جسد النص، وينحسر دور المكوّن اللفظي ويتدنى حجمه ويخف جحوظه، لكن الحقيقة الشكلية، والواقعة الشعرية، كما في كل نص شعري، إنما يضمنها "معنى المعنى"، بالحمولة الشعرية التي مُنِحها المصطلح من طرف عبدالقادر الجرجاني قديماً، ومن طرف ريتشاردز حديثاً، وإن "معنى المعنى" هو ضامن "نحو النص" بجناحيه الصوتي – اللفظي والخارج نصي معاً، وهو ما تنبَّه إليه جان ميشال آدم الذي أنهض الواقع النصي الشعري على معادلة: النص مع السياق يساوي الخطاب، وهكذا يلزم الخروج، أوان التحليل، من شرنقة الوزن بمفهومه العروضي الضيّق، لولوج "الوزن" بمفهومه الإيقاعي الواسع.

انتماء الخطاب

• الكتاب الصادر عن دار الهلال أثار عنوانه – لمن لم يقرأه – جدلاً. هل المقصود هو انتهاء زمن قصيدة الخليل بن أحمد أم وضعه في مكانةٍ أخرى تليق به؟

- كان هدفي في "شيخوخة الخليل" الدعوة إلى إعادة نبش علائق الوزن بكل من العروض والإيقاع، وتأكيد ضرورة فك الارتباط بين الوزن والعروض خاصة، فالوزن هو الأجدر بضمان انتماء الخطاب إلى جنس الشعر، وهو المتمادّ في الخطاب وحارس نطاقهِ التنغيمي، ويصيرُ الوزن أسلوباً ولغة ومؤشراً أجناسياً، وإن تعريفاً للوزن علمياً كفيل بإبعاده عن العروض، وتقريبه من الإيقاع، فالعروض بما هو الجاهز من الوزن الذي فرضه التقعيد والتقنين، وكرّسته الأعراف، وسمجَ حتى طَفا نتوءاً على جسد النص والإيقاع بما هو الممكن القرائي المفتوح الذي يستمد إمكاناته من الوزن ذاته، فالوزن بهذا المعنى هو مُدوزنُ النص الشعري، وهو الساهرُ على سلامة حدوده الأجناسية – الجمالية، فالجملة الأخيرة من غلاف "شيخوخة الخليل" دالة في هذا الاتجاه، وتكاد تختصر أطروحة الكتاب: "وُلد الخليل شيخاً وهو لن يموت".

مقومات القصيدتين

• الأمور الملتبسة بالنسبة إلى قصيدة النثر تبدو كثيرة، فهل تلك مشكلة نقدية... ألا يقوم النقد بدوره في هذا الإطار؟

- يُحصِي الباحث في قصيدة النثر، القائل بحضور السرد فيها، ما يراه اختلافاً عن الأشكال السابقة، لا ما يجمع المتن المعطى بتلك الأشكال، فيُوضعُ تبعاً لذلك في سلة قصيدة النثر، كُلّ نصٍ يُجافي، قليلاً أو كثيراً، مقومات القصيدتين، القديمة ذات الشطرين والتفعيلية، وإن الشعر ثابت أما القصيدة فمتحولة، ومن هنا ضرورة تقديم توصيف مقنع مُسيّج بضوابط لقصيدة النثر، في إطار سياجٍ أعمّ هو القصيدة العربية، وبذلك ينسحب على قصيدة النثر التعريف الشهير، مع تحوير بسيط: "قصيدة النثر كلام موزون مقفى يدل على معنى"، فليس الوزن تتالي حركات وسكنات، بل هو وزن الثِّقل، وزن المعنى، وإن المطلوب هو إفراغ العروض من حمولته لإنقاذ الوزن والعروض معاً، فمفهوم العروض يتجدد مع الزمن، ويتخذ اشتغالهُ وضعيات شتى، فيما يظل مفهوم الوزن عصيّاً على القبض، فلسفةً عامةً وخريطة طريقٍ تُتيحُ للعروض، في لحظةٍ شعرية ما، إعادة الشكل والتكوُّن، بعد أن تدركه التأليةُ والرثاثة والابتذال، وهو ما يستدعي فك الاتباط بين "الوزن" و"العروض". النقد السائد حول قصيدة النثر العربية زاد الالتباس التباساً!

الجزء الثاني

• ما مشروعك الشعري الذي تعكف عليه الآن، وربما يخرج إلى النور قريباً؟

- أنا بصدد تنقيح الجزء الثاني المتمم لـ"شيخوخة الخليل"، ولم يستقر بعدُ رأيي على إمكانات الدنوِ من حقيقةٍ شكليةٍ لقصيدة النثر العربية.

عكست الكتب التي وُضعت عن قصيدة النثر العربية مسرح الصراعات الأيديولوجية

تستحوذ المكونات النصية غير اللفظية على النصيب الأكبر من جسد النص

مفهوم العروض يتجدد مع الزمن ويتخذ اشتغاله وضعيات شتى
back to top