عودة إلى الاقتصاد الطبيعي!

نشر في 15-04-2020
آخر تحديث 15-04-2020 | 00:00
كلما طالت فترة الإقفال التام تعمّقت الأضرار الاقتصادية وتباطأ مسار التعافي، ففي الصين بدأت الأنشطة الاقتصادية تعود إلى سابق عهدها، لكن نظراً إلى مخاطر انتشار موجة ثانية وثالثة من الوباء، فلا أحد يعرف إلى أي حد سيكون استئناف الحياة الطبيعية آمناً.
 فوراين بوليسي مع بدء تدابير الإقفال التام بسبب انتشار فيروس كورونا، بدأ البحث عن حالات تاريخية مشابهة في الأعوام 1914 أو 1929 أو 1941، لكن مع مرور الأسابيع تبيّن أن الصدمة التي نعيشها اليوم تبقى غير مسبوقة تاريخياً. نتيجة انتشار وباء كورونا، من المتوقع أن يتراجع الاقتصاد الأميركي بنسبة الربع، أي ما يساوي التراجع المُسجّل في زمن الكساد الكبير.

امتدّ الانكماش بعد عام 1929 على أربع سنوات، لكنّ الانهيار المتوقع بسبب فيروس كورونا سيحصل خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، فلم يسبق أن حصل انهيار قوي بهذا القدر، أي باختصار نحن أمام ظاهرة جديدة ومرعبة على جميع المستويات.

منذ خمسة أسابيع، في بداية شهر مارس، بلغت نسبة البطالة في الولايات المتحدة أدنى مستوياتها على الإطلاق، ومع نهاية مارس ارتفعت إلى 13% تقريباً، وهو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية، ولا نعرف النسبة الدقيقة بعد لأن نظام تسجيل حالات البطالة ليس مصمّماً لتعقب أي زيادة سريعة بهذا الشكل، وعلى مر أيام الخميس المتلاحقة، ارتفعت أعداد طالبي التأمين ضد البطالة إلى 3.3 ملايين ثم 6.6 ملايين، وزادت الآن بمعدل 6.6 ملايين أخرى.

وقد صرّح خبير الاقتصاد جاستن وولفرز في صحيفة «نيويورك تايمز» بأن مستوى البطالة في الولايات المتحدة يرتفع بنسبة 0.5% يومياً، بناءً على المعدل الراهن، لذا لم يعد مستحيلاً أن يصل معدل البطالة الإجمالي إلى 30% بحلول الصيف.

تواجه الأنظمة الاقتصادية الغربية صدمة اقتصادية أعمق وأقوى من أي وقت مضى، حيث يؤثر الإقفال التام بسبب فيروس كورونا على قطاع الخدمات الذي يعمل فيه 80% من الأميركيين اليوم (البيع بالتجزئة، العقارات، التعليم، الترفيه، المطاعم)، وستكون النتيجة فورية وكارثية.

لكن لا تقتصر هذه الصدمة على الولايات المتحدة، بل تحاول أنظمة اقتصادية أوروبية كثيرة أن تخفف آثار الانهيار عبر دعم الأعمال لوقتٍ قصير، وتسمح هذه الخطة بالحد من ارتفاع معدل البطالة، ففي البلدان الغنية نستطيع أن نطلق تقديرات عن قيمة الأضرار على الأقل.

كانت الصين أول دولة تطبّق تدابير الإقفال التام في 23 يناير، وتكشف أحدث الأرقام الرسمية أن نسبة البطالة فيها تبلغ 6.2%، وهي الأعلى منذ بداية تسجيل الإحصاءات خلال التسعينيات، حين اعترف الحزب الشيوعي الصيني على مضض بأن البطالة ليست حكراً على العالم الرأسمالي.

لكن من الواضح أن ذلك الرقم لا يعكس حقيقة الأزمة الحاصلة في الصين، فوفق التقديرات غير الرسمية تغيّب 205 ملايين عامل مهاجر عن العمل، أي ما يفوق ربع اليد العاملة الصينية، وفي الهند لا يمكن تقدير حجم الأضرار المترتبة على الاقتصاد نتيجة خطة الإقفال المفاجئة التي فرضها رئيس الحكومة ناريندرا مودي طوال 21 يوماً، ومن أصل 471 مليون عامل في الهند يغطّي الضمان الاجتماعي 19% فقط، ولا يستفيد ثلثان منهم من عقود عمل رسمية، ويدخل 100 مليون فرد على الأقل في خانة العمال المهاجرين، حيث أُعيد عدد كبير منهم إلى بلداتهم سريعاً، ولم يسبق أن وقعت أحداث مماثلة منذ تقسيم البلد في عام 1947.

لا يمكن احتساب التداعيات الاقتصادية المشتقة من هذه المآسي الإنسانية الكبرى بدقة، فنحشن أمام تقديرات أولية، لكن تبرز إحصاءات لافتة وتشير إلى حجم الأضرار في اقتصادات الأسواق الناشئة هذه السنة، وتُسجَّل هذه المستويات للمرة الأولى منذ البدء بحوسبة سجلات موثوق بها عن الناتج المحلي الإجمالي بعد الحرب العالمية الثانية، لقد توقف نموذج كامل من التنمية الاقتصادية العالمية.

لا ينجم هذا الانهيار عن الأزمة المالية، حتى أنه ليس نتيجة مباشرة للوباء، بل إنه يشتق من سياسات منتقاة، لذا يُعتبر هذا الوضع جديداً على جميع المستويات، وتبيّن أن كبح الاقتصاد أسهل من تحفيزه، لكنّ الجهود الرامية إلى تخفيف التداعيات تبقى غير مسبوقة تاريخياً، ففي الولايات المتحدة تُعتبر حزمة الحوافز التي وافق عليها الكونغرس خلال أيام لتطبيق تدابير الإقفال التام الأكبر على الإطلاق في زمن السلم.

وفي أنحاء العالم برزت نزعة إلى زيادة الإنفاق، فأعلنت ألمانيا المعروفة بسياساتها المالية المحافِظة عن خطة طوارئ وأزالت جميع الحدود المفروضة على الدين العام، فباختصار نحن نشهد أكبر جهود مالية مشتركة منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المتوقع أن تتّضح آثارها خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، ومن الواضح أصلاً أن الجولة الأولى قد لا تكون كافية.

تقضي مهمة عاجلة أخرى بمنع التباطؤ من التحول إلى أزمة مالية ضخمة، إذ يُقال إن الاحتياطي الفدرالي الأميركي برئاسة جيروم باول يتبع قواعد عام 2008، وهو تحليل صحيح، فيوماً بعد يوم يطرح هذا الجهاز برامج جديدة لدعم كل جانب من السوق المالي، لكن يختلف نطاق تدخّل الاحتياطي الفدرالي هذه المرة، ولمواجهة صدمة الإقفال التام عمد هذا الجهاز إلى توفير كمية ضخمة من السيولة.

في أواخر مارس كان الاحتياطي الفدرالي يشتري الأصول بمعدل 90 مليار دولار يومياً، أي أكثر مما كان يشتري في عهد بن بيرنانكي في معظم الأشهر، وكان يقايض سندات خزينة وأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري بقيمة مليون دولار بأموال نقدية كل ثانية، وفي صباح 9 أبريل وتزامناً مع صدور أحدث الأرقام عن معدلات البطالة المرعبة، أعلن الاحتياطي الفدرالي شراء أصول إضافية بقيمة 2.3 تريليون دولار.

حتى الآن منعت هذه الخطة الضخمة والفورية انهياراً مالياً عالمياً مؤكداً، لكننا نواجه اليوم فترة مطوّلة من الانكماش نتيجة انهيار الاستهلاك والاستثمارات. وأعلنت 73% من الأُسَر الأميركية أنها خسرت جزءاً من مداخيلها في شهر مارس، وتلك الخسارة تكون كارثية في بعض الحالات، فتدفع الناس إلى حالة حادة من الحرمان والعجز عن سداد المستحقات والإفلاس.

لا مفر من زيادة التأخيرات في سداد الديون الاستهلاكية، مما يؤدي إلى تضرر النظام المالي بشكلٍ دائم، وكذلك ستتأجل النفقات التقديرية ويتراجع استهلاك البنزين في أوروبا بنسبة 88%، وسوق السيارات دخل في حالة جمود، وتحتفظ شركات تصنيع السيارات في أوروبا وآسيا بكميات ضخمة من المركبات غير المُباعة.

وكلما طالت فترة الإقفال التام تعمّقت الأضرار الاقتصادية وتباطأ مسار التعافي، ففي الصين بدأت الأنشطة الاقتصادية تعود إلى سابق عهدها، لكن نظراً إلى مخاطر انتشار موجة ثانية وثالثة من الوباء، لا أحد يعرف إلى أي حد سيكون استئناف الحياة الطبيعية آمناً، وما لم يتحقق إنجاز طبي كبير، فستبقى تدابير الحد من التنقلات على حالها للتحكم بفاعلية احتواء الفيروس. في النهاية، يبدو أن تأجيل التعافي بات في هذه المرحلة أقرب إلى الواقع من النهوض الاقتصادي السريع والقوي!

* آدم توز

مع نهاية مارس ارتفعت نسبة البطالة في أميركا إلى 13% تقريباً وهو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية

في 9 أبريل ومع صدور أحدث الأرقام عن معدلات البطالة المرعبة أعلن الاحتياطي الفدرالي شراء أصول إضافية بـ 2.3 تريليون دولار
back to top