الآثار السياسية للجائحة

نشر في 06-04-2020
آخر تحديث 06-04-2020 | 00:00
الطريقة الوحيدة لإدارة التهديدات العامة التي تهدد مستقبل البشرية هي من خلال التعاون والتنسيق المكثف بين الحكومات والمؤسسات المتعددة الأطراف، لذلك يجب تعزيز منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة بشكل عام بأي ثمن.
 بروجيكت سنديكيت ضَرب الكويكب وفجأة تغير كل شيء، لكن الكويكب الذي اصطدم بكوكبنا غير مرئي، يحتاج المرء إلى مجهر، بدلاً من تلسكوب، ليتمكن من رؤيته، ففي ظل وباء كوفيد 19، يواجه العالم عدة أزمات في الوقت نفسه: أدت أزمة صحية عالمية إلى العديد من الأزمات في الاقتصاد والمجتمع المدني والحياة اليومية، يبقى لنا أن نرى ما إذا كان سينتج عنها عدم الاستقرار السياسي، سواء داخل البلدان أو دوليا، ولكن من الواضح أن الوباء قد غير بشكل متزايد نمط الحياة اليومية الذي نعرفه، ففي حين أنه لا يمكن التنبؤ بنهاية الأزمة وعواقبها، يمكن توقع بعض التغييرات المهمة.

إن الأزمة ليست معقدة وبعيدة المدى وتهدد أسس المجتمعات الفردية والاقتصاد العالمي فقط، بل هي أكثر خطورة وأوسع نطاقا بكثير من الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وعلى عكس تلك الأزمة يهدد الفيروس التاجي ملايين الأرواح حول العالم، ولا تتركز آثاره الاقتصادية في قطاع واحد فقط.

في جميع أنحاء العالم تم توقف معظم الأنشطة الاقتصادية، مما مهد الطريق لركود عالمي، وبصرف النظر عن حصيلة القتلى واستقرار النظم الصحية، فإن السؤال المطروح الآن هو مدى حدة الركود الاقتصادي، وما العواقب الدائمة التي ستترتب عليه؟

وبالمثل، لا يسعنا إلا أن نخمن الآثار التي سيحدثها الفيروس في المناطق الهشة بالفعل، وخصوصا في مخيمات اللاجئين، يبدو أن إيران تتجه نحو أزمة إنسانية كبرى، حيث يكون الأشد فقراً والأكثر ضعفاً هم الأكثر تضرراً، وأبعد من ذلك، لا يزال من السابق لأوانه إجراء أي تقييم واقعي عن بُعد لعواقب فيروس كوفيد 19 الإنسانية.

ومع ذلك تخبرنا التجربة السابقة أن مثل هذه الصدمات الحادة تميل إلى تعطيل الأنظمة السياسية والعلاقات الدولية، وعلى وجه الخصوص، قد يصبح حكم الديمقراطيات الغربية موضع تساؤل، يمكن تحريض مبادئ حقوق الإنسان ضد الضرورات الاقتصادية، يؤدي الوباء أيضا إلى صراع الأجيال بين الشباب والمسنين، وبين الاستبداد والديمقراطية الليبرالية.

ومع ذلك، هناك سيناريو بديل محتمل، حيث تؤدي أزمة وباء كوفيد 19 إلى تضامن جديد، على سبيل المثال، في ديسمبر 2004، كان الزلزال وأمواج تسونامي في المحيط الهندي سببا رئيسا لنهاية الحرب الأهلية في آتشيه، شمال سومطرة.

فعلى المدى القصير ستواجه البلدان الأكثر تأثراً بالوباء العديد من الأزمات: ستسعى الحكومات إلى توفير مستويات هائلة من الإنفاق مع اتخاذ تدابير غير مسبوقة لمنع الانهيار التام، ويتعين الاستجابة الفعالة لذلك، لكن من الواضح أن العلاقة بين الاقتصاد والدولة ستخضع لتغييرات جذرية.

وفي تحول ملحوظ عن الحكمة السائدة في العقود الأخيرة، نشهد اليوم بالفعل عودة "الحكومة الكبرى"، يتطلع الجميع إلى الدولة لضخ مبالغ ضخمة من المال لإنعاش الاقتصاد، وإنقاذ (أو تولي) الشركات والقطاعات المعرضة للخطر والتي تعتبر ضرورية، وينبغي تقليص دور الدولة المتزايد بشكل كبير بعد مرور الأزمة، ولكن لا يزال يتعين مناقشة كيفية القيام بذلك، من الناحية المثالية، ستقوم الحكومات بتحويل العائدات الناتجة عن إعادة الخصخصة إلى صندوق ثروة سيادية، وبالتالي إعطاء الجمهور حصة في تسوية ما بعد الأزمة.

حتى ذلك الحين من المتوقع أن تستعد "الحكومة الكبرى"- سواء المفوضية الأوروبية أو السلطات الوطنية- للكارثة القادمة، وبدلاً من الوقوع في المشكلة نفسها مرة أخرى، ستحتاج إلى ضمان توفير المستلزمات الطبية الأساسية ومعدات الوقاية الشخصية والمطهرات والقدرة المختبرية الكافية ووحدات العناية المركزة وما إلى ذلك.

لكن هذا ليس كل شيء، سيظل استقرار أنظمة الرعاية الصحية الحالية وكفاءتها وقدرتها وتكاليفها قضية أساسية، فقد أظهرت أزمة فيروس كوفيد 19 أنه ليس من الممكن حقا خصخصة الرعاية الصحية، وفي الواقع تُعد الصحة العامة مصلحة عامة أساسية وعامل حاسم في الأمن الاستراتيجي.

كما سيكون هناك اهتمام متزايد بقطاع الأدوية، ولاسيما التوفير المحلي للأدوية الأساسية وتطوير أدوية جديدة، لن تعتمد العديد من البلدان بعد الآن على سلاسل الإمداد الدولية التي يمكن أن تنهار بسهولة في حالات الطوارئ، وهذا لا يعني أنه سيتم إلغاء اقتصاد السوق، بل ستؤكد الدولة على موقفها في التعامل مع مجتمع الأعمال، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالقضايا الإستراتيجية، على سبيل المثال ستساهم الأزمة في تعزيز السياسة الرئيسة من أجل السيادة الرقمية في أوروبا، ولن يكون نموذجها مماثلا لنموذج الصين الاستبدادية، بل يشبه نموذج كوريا الجنوبية الديمقراطية التي نجحت في تأسيس ميزة رقمية.

ومع ذلك، لم يؤدّ الاتحاد الأوروبي حتى الآن دورا بارزا في الاستجابة العالمية لوباء كوفيد 19، وهذا ليس أمرا مفاجئاً، ففي الأزمات الحقيقية، يميل الناس إلى العودة إلى ما يعرفونه بشكل أفضل، والذي يتمثل في الدولة القومية، لكن في حين أن الدول القومية الأوروبية يمكنها بالتأكيد تأدية دور فوري في إدارة الأزمات، إلا أنها لا تستطيع حل الأزمة.

بعد كل شيء، فإن السوق الموحدة والعملة المشتركة والبنك المركزي الأوروبي هي الآليات الوحيدة التي يمكنها منع الانهيار الاقتصادي وتمكين الانتعاش النهائي في أوروبا، وبالتالي من المرجح أن تجبر أزمة وباء كوفيد 19 الأوروبيين على "العمل معا أكثر من أي وقت مضى"، مما يتطلب تضامنا أعمق.

ما البديل؟ العودة إلى عالم يتدبر الجميع أمورهم بأنفسهم؟ بالنسبة إلى حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، سيكون ذلك بمثابة انتحار سياسي واقتصادي، إذ تُعد جائحة كوفيد 19 الأزمة الأولى في القرن الحادي والعشرين التي تؤثر بشكل كبير على البشرية جمعاء، وقد تتبعها أزمات جديدة، ولن تأتي كلها على شكل فيروسات، والواقع أن الأزمة السريعة التي نمر بها الآن هي معاينة للأزمات المستقبلية إذا لم نعالج مشكلة تغير المناخ.

إن الطريقة الوحيدة لإدارة التهديدات العامة التي تهدد مستقبل البشرية هي من خلال التعاون والتنسيق المكثف بين الحكومات والمؤسسات المتعددة الأطراف، على سبيل المثال لا الحصر، يجب تعزيز منظمة الصحة العالمية- والأمم المتحدة بشكل عام- بأي ثمن، حيث إن فيروس كوفيد 19 هو بمثابة تذكير بأن جميع سكان الأرض البالغ عددهم ثمانية مليارات شخص على القارب نفسه.

* يوشكا فيشر

* وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005، وكان زعيماً لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاماً.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

أزمة فيروس كوفيد 19 أظهرت أنه ليس من الممكن حقاً خصخصة الرعاية الصحية
back to top