مضاعفات سياسية تنذر بتمزيق المملكة المتحدة

نشر في 03-04-2020
آخر تحديث 03-04-2020 | 00:00
بوريس جونسون  - نيكولا ستورجون
بوريس جونسون - نيكولا ستورجون
حتى قبل خروج المملكة المتحدة بصورة رسمية من الاتحاد الأوروبي في أواخر شهر يناير دفعها البريكست الى اضطرابات سياسية استمرت أكثر من ثلاث سنوات، ولكن بعد أن هدأ الغبار برزت تداعيات جديدة مثيرة للقلق وتتمثل في الخوف من أن يفضي البريكست الى تمزيق المملكة المتحدة نفسها في نهاية المطاف.

وقد تركز القدر الأكبر من الاهتمام على أسكتلندا التي صوتت ضد الاستقلال في عام 2014، وكانت أسكتلندا موطناً لحركة نشطة حول الاستقلال، وعارضت أكثرية واسعة من الأسكتلنديين الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي شهر ديسمبر طلب الحزب الوطني الأسكتلندي الحاكم رسمياً الحصول على تفويض من أجل إجراء استفتاء آخر على الاستقلال، وبشكل واقعي، على أي حال، يظل الانفصال غير محتمل، وربما أن البريكست نفر الشعب الأسكتلندي سياسياً أما على الصعيد الاقتصادي فإنه سيسهم في ربطه بقوة أكبر مع المملكة المتحدة بحيث يصبح من المحتمل أن يسود المنطق المالي ويتفوق على المشاعر الوطنية، وإذا كان ثمة خطر يتهدد التكامل الإقليمي البريطاني فإن لن ينبع من أسكتلندا بل من أيرلندا الشمالية.

وكانت قضية استقلال أسكتلندا قد تمتعت بظهور عاصف منذ أجرت استفتاء على المسألة في عام 2014، ويومها انتهى الاستفتاء الى فشل كان يفترض أن يسهم في تجميد تلك القضية لجيل كامل على الأقل لولا تدخل البريكست، وفي عام 2016، صوّت الأسكتلنديون بأكثرية ساحقة للبقاء في الاتحاد الأوروبي لكنهم هزموا أمام معارضيهم في إنكلترا، وأشارت حكومة أسكتلندا المؤيدة للاستقلال الى تلك الحقيقة من أجل المجادلة في أن أسكتلندا أخرجت من الاتحاد الأوروبي ضد إرادتها الديمقراطية وطالبت بإعادة التصويت على استفتاء عام 2014.

تغيير الرأي العام

في العام الماضي، على أي حال، سار عشرات الآلاف في مظاهرة في شوارع غلاسكو دعماً لفكرة إجراء استفتاء آخر على الاستقلال، وعلى الرغم من ذلك ليس من الواضح أن يكون البريكست قد أسفر عن تغيير الرأي العام الأسكتلندي إزاء الاستقلال بشكل كبير، وتظهر استطلاعات الرأي بعض التباينات، وخلال العام الماضي، على سبيل المثال، أظهر 15 استطلاعاً للرأي مزيداً من الدعم للبقاء في المملكة المتحدة، في حين أظهر 3 المزيد من الدعم للاستقلال.

ويطرح هذا الوضع صورة مشوشة لكنها تشابه بشكل إجمالي الحالة التي سبقت استفتاء عام 2014، والأكثر من ذلك، وعلى الرغم من صعوبة تحديد السبب الذي أفضى الى فشل استفتاء عام 2014 بصورة دقيقة يبدو أن الكثيرين من الذين عارضوا الاستقلال يومئذ كانت لديهم دوافعهم الاقتصادية، ولكن الصورة تغيرت اليوم وتظل أسكتلندا معتمدة بقدر كبير على الاقتصاد البريطاني الأوسع كما أن شعب أسكتلندا يفهم أن الاستقلال سيتحقق بثمن اقتصادي مرتفع.

مساعدات بريطانية إلى أسكتلندا

من جهة أخرى، قدمت وزارة الخزانة البريطانية مساعدات مالية الى أسكتلندا بلغت نحو 17 مليار دولار في السنة أو 3.167 دولارا للشخص وتذهب نسبة تصل الى نحو 60 في المئة من صادرات أسكتلندا الى بقية أنحاء المملكة المتحدة- وهي تعادل أربعة أمثال ما تصدره الى الاتحاد الأوروبي- ولكن بعيداً عن الجانب الاقتصادي، وكما يقول أحد المعلقين، فإن أسكتلندا قد تحولت الى بؤرة جذب اقتصادية اقليمية في المملكة المتحدة.

ومن المحتمل أن يعزز البريكست ذلك الوضع ومن المتوقع أن يتم إبرام اتفاق تجاري بين لندن وبروكسل، لكنه سيطرح من دون شك شريحة من الحواجز أمام التجارة وخصوصا في قطاع الخدمات، وستضاعف مثل تلك الحواجز صعوبة تقدم اقتصاد أسكتلندا بمفرده ومن دون تعاون من الآخرين.

وفي عام 2014 كان الاعتماد على انكلترا أقل أهمية، وكان في وسع أسكتلندا المستقلة الانضمام الى عضوية الاتحاد الأوروبي الى جانب المملكة المتحدة، وأن تستمر في التمتع بالوصول من دون حدود الى أكبر شريك تجاري لها، أما اليوم فلا يوجد مثل هذا الخيار، وعلى العكس من ذلك فإن الخروج من المملكة المتحدة والانضمام الى الاتحاد الأوروبي سيتطلب من أسكتلندا اقامة نقاط تفتيش على الطرقات الى انكلترا، وهي خطوة مثيرة للانزعاج بين دولتين ارتبطتا باتحاد منذ أكثر من 300 سنة.

دروس الماضي

عندما تفككت الدول في الماضي– كما حدث في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا على سبيل المثال– كانت الحصيلة كارثية بالنسبة الى الاقتصاد، ومن جهته قد لا يرحب الاتحاد الأوروبي بانضمام أسكتلندا الضعيفة التي تحتاج الى الكثير من المساعدات.

في وسع أسكتلندا المستقلة طبعاً أن تختار البقاء خارج الاتحاد الأوروبي وربما حتى الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني كعملة لها، لكن ذلك سيسفر عن اعتماد اقتصادي أكبر على إنكلترا، كما أن فقدان التمثيل في وستمنيستر سيجعل أسكتلندا أقل سيطرة على مصيرها، وفي وضع مشابه لمحنة المملكة المتحدة الحالية مع بروكسل، وربما أن التصويت ضد المصالح الاقتصادية من أجل تحقيق استقلال عن البيروقراطيات هو روح هذا العصر من الوطنية.

إن التهديد الحقيقي سينبع من الغرب البعيد عبر البحر الأيرلندي، ومن الوجهة الاقتصادية بدأت أيرلندا الشمالية من موقف مشابه لموقف أسكتلندا وهي منطقة تعتمد بشدة على مساعدات عبر الخدمات لإنعاش اقتصادها، كما أن أكثر أسواق التصدير فيها أهمية هي بقية المملكة المتحدة ويتبعها جمهورية ايرلندا، ولكن اذا كان البريكست سيدفع اقتصاد أسكتلندا بقدر أكبر نحو مظلة انكلترا فسيدفع أيرلندا الشمالية في اتجاه معاكس.

مشكلة الحدود الأيرلندية

كانت المفاوضات حول شروط خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تعثرت لسنوات بسبب وضع الحدود الأيرلندية، وكيفية تفادي مراقبة جوازات السفر ونقاط تفتيش الجمارك بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا إذا غادرت السابقة الاتحاد الأوروبي وظلت الثانية فيه، ولكن الاتفاق الذي أبرم في العام الماضي بين لندن وبروكسل تمكن من حل هذه المشكلة عن طريق إقامة حدود بين أيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة. ومن الناحية القانونية غادرت أيرلندا الشمالية الآن الاتحاد الأوروبي ولكن بخلاف بقية المملكة المتحدة فهي لا تزال تحتفظ بدرجة عالية من الارتباط مع الاتحاد الأوروبي.

وفي ضوء تلك الترتيبات يحتمل أن توسع أيرلندا الشمالية بمرور الوقت علاقاتها الاقتصادية مع جمهورية أيرلندا ومع الاتحاد الأوروبي وخفض اعتمادها على المملكة المتحدة، والنقطة الجوهرية ستتوقف على كيفية عمل اتفاق البريكست على الصعيد العملي، وقد أصر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على أن ذلك الاتفاق لا يتطلب وجود نقاط تفتيش بين أيرلندا الشمالية وبقية أنحاء المملكة المتحدة ولكن قراءة الاتحاد الأوروبي لذلك الاتفاق كانت مختلفة تماماً، وقد غضب رئيس الوزراء البريطاني كثيراً من ذلك الموقف من أيرلندا الشمالية وطالب باقامة جسر بقيمة 25 مليار دولار عبر البحر الأيرلندي لتحقيق ربط أفضل بين ايرلندا الشمالية وبقية أنحاء البلاد.

قلق الاتحادات العمالية

وتشعر الاتحادات العمالية في أيرلندا الشمالية بقلق أيضاً ولأسباب وجيهةـ ويرجع ذلك الى أن وضع ايرلندا الشمالية الغريب يأتي في وقت بدأت فيه عدة اتجاهات باعادة رسم الخطوط التقليدية السياسية والاجتماعية هناك، وعلى سبيل المثال فإن ايرلندا الشمالية هي موطن أكثرية لطائفة البروتستانت ولكن خبراء يتوقعون أن تصبح ذات أكثرية كاثوليكية في موعد قريب ربما لا يتجاوز العام المقبل، وبعد أكثر من عشرين عاماً على اتفاقية عام 1998 التي أنهت المتاعب بين المنطقتين وأزالت الحدود بين شطري ايرلندا يبدو أن جيل الشباب هناك غير مكترث بالعوامل الدينية والوطنية التي سادت في الماضي.

وبدلاً من ذلك فإن جيل الشباب يميل الى حشد القيم العصرية مثل انهاء القيود على الاجهاض وزواج المثليين، وقد تطور هذا التحول وانتقل الى الثقافة الشعبية أيضاً، وبالنسبة الى الوقت الراهن تظهر معظم استطلاعات الرأي في أوساط ناخبي ايرلندا الشمالية درجة قليلة من الحماسة لمغادرة المملكة المتحدة، ولكن على الرغم من ذلك فإن دعم الاستقلال يتزايد ولو بصورة بطيئة، وبخلاف أسكتلندا لن تكون أيرلندا الشمالية في حاجة الى القلق من احتمال تعرضها لمتاعب اذا خرجت من المملكة المتحدة، ويرجع ذلك الى وجود خيار يتمثل في إمكانية الوحدة مع جمهورية ايرلندا شريطة موافقة الناخبين على جانبي الحدود على ذلك في استفتاء شعبي.

الطريق ليس ممهداً بالنسبة الى أسكتلندا وأيرلندا الشمالية، لكن ما هو مؤكد على أي حال أن حركات الاستقلال فيهما ستهز السياسات البريطانية لبعض الوقت، كما أن تداعيات تلك الحركات السياسية التي يواكبها تحديات البريكست ستبعد البلاد عن المسرح الدولي لسنوات كثيرة مقبلة.

• جيريمي شابيرو

back to top