دروس من الإنفلونزا الإسبانية في آسيا

نشر في 30-03-2020
آخر تحديث 30-03-2020 | 00:00
 ذي دبلومات يشغل انتشار فيروس "كوفيد-19" السلطات السياسية حول العالم، لكنه يذكّرهم أيضاً بتجارب الماضي، من المعروف أن "الإنفلونزا الإسبانية" (حملت هذا الاسم لأن التقارير الإعلامية الأولية ذكرت أن الوباء نشأ في الأصل في إسبانيا، لا في معسكرات تدريب الجيش الأميركي) دمّرت الولايات المتحدة وأوروبا في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، ولم تكن مظاهر العولمة كثيرة في عام 1918 مقارنةً بالعالم المعاصر، وتراجعت حينها مستويات التجارة العالمية والسفر الدولي، ومع ذلك انتشرت تلك الإنفلونزا بوتيرة فائقة وهاجمت الناس على ثلاث دفعات مختلفة في معظم بلدان العالم، لم يكن تباعد المسافة بين الناس كافياً لحمايتهم، حتى أن الحرب نفسها ساهمت في نشر الوباء، فقد حمله الجنود الأميركيون إلى أوروبا، ثم نشره الأوروبيون في بقية بلدان العالم، وتركت الإنفلونزا بصمتها في أكبر دول شرق آسيا أيضاً، لكن كانت آثارها مختلفة جداً في كل بلد منها.

كانت اليابان شريكة بريطانيا وفرنسا في القتال خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها بقيت خارج الحرب المحتدمة منذ تقليص الامتيازات الألمانية في الصين في عام 1914، مع أن التدخل في الاتحاد السوفياتي في عام 1918 أدى إلى تجدد نشاط القوات اليابانية، فقد ضربت الإنفلونزا الجيش الياباني في نوفمبر 1918، وبلغت ذروتها بعد شهر تقريباً على استهدافها الجيوش على الجبهة الغربية في فرنسا، وكان معدل الوفيات أقل مستوى في صفوف الجيش الياباني مقارنةً بالجيوش الأوروبية، وربما يتعلق السبب بتأثير متطلبات العمليات الحاصلة على علاج تلك الجيوش. مع ذلك، مات 6 إلى 8% من ضحايا الإنفلونزا، وفي المحصلة توفي بين 400 و500 ألف ياباني نتيجة الإنفلونزا الإسبانية، وكان منحنى انتشار الوباء بين السكان هناك يشبه الوضع في الغرب (قتلت الإنفلونزا الصغار وكبار السن ونسبة كبيرة من الراشدين الشباب)، وتوفي 200 ألف شخص آخر في كوريا وتايوان المُحتلّتَين من اليابان.

على صعيد آخر، دمّرت الإنفلونزا الهند البريطانية، فقتلت نحو 18 مليون شخص، وكانت الهند قد وفرت طاقماً مهماً للبريطانيين، على مستوى القوة القتالية والمساعدين، وانتشر المرض بسرعة انطلاقاً من بؤرته في بومبي، في حين تخبّط المسؤولون في المستعمرات وأنكروا خطورة انتشار الوباء، والتقط موهانداس غاندي العدوى، لكنه نجا، ومع ذلك أثبتت تداعيات الإنفلونزا الضعف الكامن في النظام البريطاني الإمبراطوري، وكان منطقياً أن تزيد قوة الحركة المنادية بالاستقلال.

كان أثر تلك الإنفلونزا ضئيلاً في الصين، على عكس الهند، إذ لم تستعمر القوى الأوروبية الصين بالكامل، لذا بقي جزء كبير من سكانها المزارعين بمعزل عن المستعمرين الذين نشروا المرض، وعلى عكس اليابان، بقيت الجماعات السكانية الصينية زراعية في معظمها خلال العقود الأولى من القرن العشرين، ويفترض البعض أن الطب الصيني التقليدي، الذي ركّز تاريخياً على التحكم في الأوبئة، أدى دوراً مؤثراً للحد من انتشار الفيروس وتداعياته الخطيرة، لكن يسهل أن نشكك بهذا الاستنتاج لأن الصين لم تكن تشمل حكومة مركزية فاعلة في تلك الحقبة، وبالتالي تَقِلّ الإحصاءات الوافية عن أثر ذلك الفيروس.

اليوم، تواجه اليابان والهند والصين أنواعاً مختلفة من المشاكل مقارنةً باضطراباتها في عام 1918، ومع ذلك تركت الإنفلونزا الإسبانية بصمتها في تلك البلدان كلها، وتوقفت آثارها على الاختلافات القائمة في البنية الحاكمة وعلاقات كل بلد مع المجتمع الدولي، حيث سيستفيد صانعو السياسة المعاصرون من تذكّر معطيات الوباء في عام 1918 إذا فكروا بطريقة التعامل مع الوباء الجديد في 2020.

* روبرت فارلي

* «دبلومات»

back to top