غاندي المنسي

نشر في 18-03-2020
آخر تحديث 18-03-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت صادف في الثاني عشر من مارس الذكرى السنوية التسعين لواحد من أعظم الأحداث في نضال الهند القومي: بداية مسيرة الـمِلح، التي افتتح بها المهاتما غاندي أكثر محاولاته نجاحا في العصيان المدني ضد الحكم البريطاني، واليوم وقد أصبحت التعددية والديمقراطية في الهند تحت تهديد أعظم من أي وقت مضى منذ الاستقلال، فإن الدروس المستفادة من تلك المسيرة لم تكن قَط أكثر أهمية مما هي عليه الآن.

كانت جذور مسيرة الـمِلح ممتدة إلى مظلمة طال أمدها، فقد حول البريطانيون إنتاج الـمِلح وتوزيعه إلى احتكار مربح، وكان إنتاج أو بيع الـمِلح بشكل مستقل محظورا على الهنود، الذين اضطروا إلى شراء مِـلح مستورد غالبا وبأسعار باهظة متحملين ضرائب ثقيلة، فقد بدأت احتجاجات الهنود ضد ضريبة الـمِلح في القرن التاسع عشر، لكن القرار الذي اتخذه غاندي في عام 1930 بالتظاهر ضد هذه الضريبة كان بمثابة لحظة فارقة.

بدأ غاندي مسيرته من معتكفه في أحمد أباد إلى بلدة داندي التي تقع على بحر العرب، على بُـعد 385 كيلومترا، وعلى طول الطريق، توقفت مجموعته في القرى، حيث تجمعت حشود أكبر للاستماع إلى المهاتما يدين الضريبة، وانضم المئات إلى المسيرة التي شقت طريقها إلى الساحل.

في الخامس من إبريل وصلت المسيرة إلى بلدة داندي، وفي الصباح التالي التقط غاندي وأتباعه حفنا من الـمِلح على طول الشاطئ، وبهذا «أنتجوا» الـمِلح عمليا وخرقوا القانون، وهو عمل مقنع بصريا وفعّال للغاية من أعمال العصيان المدني.

استحوذ هذا الحدث الدرامي على مخيلة الهند والعالم، وواصل غاندي احتجاجه ضد ضريبة الملح طوال الشهرين التاليين، وحث الهنود على خرق قوانين الـمِلح، وألقي القبض على الآلاف وسُـجِنوا؛ واعتُـقِـل المهاتما في أوائل شهر مايو بعد أن أبلغ نائب الملك إيروين أنه يعتزم قيادة مسيرة إلى الملاحات في داراسانا.

دفعت الأنباء حول اعتقال غاندي عشرات الآلاف إلى الانضمام إلى المسيرة، التي استمرت في الحادي والعشرين من مايو، فهاجمت قوات الشرطة 2500 من المتظاهرين السلميين وانهالت عليهم ضربا، وبحلول نهاية عام 1930، كان ما يقرب من 60 ألف شخص قد سُـجـِنوا.

لم يعاين الحاكم البريطاني أي شيء من هذا القبيل من قَـبل، وأدركت السلطات الإمبراطورية أن استمرار القمع والاحتجاز أمر غير وارد، فأطلق سراح غاندي من الحجز في يناير من عام 1931 وبدأ المفاوضات مع إيروين، وبدأت الهدنة رسميا بموجب ميثاق غاندي-إيروين، الذي جرى توقيعه في الخامس من مارس من عام 1931، ومهدت تهدئة التوترات الطريق أمام غاندي، الذي كان يمثل المؤتمر الوطني الهندي، لحضور الجلسة الثانية من مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، ونجحت حملة العصيان المدني التي أطلقها؛ وكان النصر الأخلاقي من نصيبه.

يستدعي حزب المؤتمر الوطني الهندي، وهو في المعارضة الآن، هذه اللحظة بإعادة تمثيل مسيرة داندي جزئيا، وفي القيام بهذا، يحاكي الحزب جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، والذي تحدث في لحظة الاستقلال عن المهاتما على أنه «يجسد روح الهند القديمة»، وأن «أجيال المستقبل» ستتذكر رسالته.

ماذا كانت تلك الرسالة؟ قاد المهاتما أول حركة «لا عنف» ناجحة في تاريخ العالم للاستقلال عن الحكم الاستعماري، وفي الوقت ذاته كان غاندي فيلسوفا سعى بلا انقطاع إلى تطبيق أفكاره عمليا، سواء كانت تنطبق على تحسين الذات الفردية أو التغيير الاجتماعي: وما ينبئنا بالكثير أن سيرته الذاتية كانت تحمل عنوان «قصة تجاربي مع الحقيقة».

لن نجد أي قاموس يصف كلمة «الحقيقة» بالعمق الذي أضفاه غاندي على معناها، فكانت حقيقته ناشئة عن قناعاته: فلم تكن تعني ما هو دقيق فحسب؛ بل كانت تعني أيضا ما هو عادل وبالتالي فهو حق، وإن الحقيقة لا يمكن الحصول عليها بوسائل «غير صادقة» أو غير عادلة، والتي تضمنت ممارسة العنف ضد الخصم.

ولوصف طريقته صاغ غاندي تعبير «ساتياجراها»، وهو يعني حرفيا «التمسك بالحقيقة» أو كما وصفها بشكل مختلف، «قوة الحقيقة»، أو «قوة الحب»، أو «قوة الروح»، وكان يكره المصطلح الإنكليزي «passive resistance» (المقاومة السلبية)، لأن ساتياجراها تتطلب العمل الناشط لا السلبية، وشعر غاندي بأن المرء لا يملك ترف السلبية، إذا كان يؤمن بالحقيقة ويهتم بالقدر الكافي بالوصول إليها: بل يجب أن يكون مستعدا للمعاناة من أجل الحقيقة.

وعلى هذا فإن مفهوم اللاعنف، مثله مثل عدم التعاون أو عدم الانحياز، كان يعني ما هو أعظم كثيرا من إنكار عكسه، ولم يقتصر معناه ضمنا على غياب العنف، فالمرء قادر على إثبات الحقيقة من خلال إلحاق المعاناة بذاته لا خصمه، وكان قبول العقوبة ضرورة أساسية لإثبات قوة قناعات المرء.

كان هذا هو النهج الذي جلبه غاندي إلى حركة استقلال الهند، وعلى نقيض الإرهاب المتقطع والدستورية المعتدلة، نجح ذلك النهج، حيث حمل غاندي قضية الحرية إلى الجماهير باعتبارها قضية صواب وخطأ بسيطة ومنحهم أسلوبا لم يستطع البريطانيون الرد عليه.

من خلال نبذ العنف انتزع غاندي الميزة الأخلاقية، ومن خلال خرق القانون دون اللجوء إلى العنف، سلط غاندي الضوء على ظلم القانون، وبقبول العقوبات التي فُـرِضَـت عليه، أرغم سَـجَّـانيه على مواجهة سلوكهم الوحشي، وبإخضاع نفسه طواعية للإضراب عن الطعام، أظهر المدى الذي لن يتردد في الذهاب إليه في الدفاع عما كان يعتبره الصواب والحق، وفي النهاية نجح في جعل استمرار الحكم البريطاني في حكم المستحيل.

تقدم مسيرة الـمِلح إلى داندي ويقدم غاندي إلى الهند اليوم أكثر من مجرد صدى تاريخي، ولكن ينبغي لنا أن نعترف بحقيقة واحدة: من غير الممكن أن تنجح حركة العصيان المدني التي تنبذ العنف على طريقة غاندي إلا في مواجهة خصوم معرضين لخسارة السلطة الأخلاقية، حكومة تستجيب للرأي العام المحلي والدولي وقابلة للشعور بالخجل إلى الحد الذي يجعلها تقر بالهزيمة، ولن تخلف مثل هذه الحركة أثرا يُـذكَـر على أولئك الذين لا يبالون بما إذا كانوا على خطأ، فمن منظورهم يُـعَـد استعدادك للخضوع للعقاب لإثبات خطئهم الوسيلة الأنسب لتحقيق النصر، لذلك فإن فِـكر غاندي في غياب السلطة الأخلاقية أشبه بالفكر الماركسي بدون بروليتاريا (الطبقة العاملة).

مع ذلك، كان قِلة من أولئك الذين جربوا أساليب غاندي يتمتعون بمثل نزاهته الشخصية أو مكانته الأخلاقية، ففي حين كان العالم ينزلق إلى الفاشية، والعنف، والحرب، كان المهاتما يعلم الناس فضائل الحقيقة، واللاعنف، والسلام، لقد نجح في تدمير مصداقية الاستعمار بمعارضة مبدأ القوة، وقد حدد وحقق معايير شخصية للإيمان الراسخ والشجاعة لن يضاهيه فيها إلا قِلة من الناس، كان غاندي ذلك القائد النادر الذي لم يقيده قصور أتباعه.

لا يزال الناس في مختلف أنحاء العالم يستلهمون من أصالة فِكر غاندي ومثال حياته، ومن المؤسف أن عالمنا أصبح مكانا حيث يتعين على المرء أن يتساءل ما إذا كنا تعلمنا حقا ماذا كان غاندي يعني بالحقيقةظ وكيف يمكننا تعريفها والدفاع عنها؟

* شغل سابقا مناصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، ووزير الدولة للشؤون الخارجية ووزير الدولة لتنمية الموارد البشرية في الهند، وهو عضو البرلمان عن حزب المؤتمر الوطني الهندي.

«شاشي ثارور»

back to top