نجيب العوفي: القصة القصيرة أولُ منزلٍ ترعرعتُ فيه أدبياً

يمّم وجهه شطر الأعمال الأدبية الجديدة للأجيال الصاعدة

نشر في 17-03-2020
آخر تحديث 17-03-2020 | 00:15
يُعد الناقد المغربي نجيب العوفي من أكثر النقاد العرب تقديماً للتجارب الأدبية مع ميل إلى التجارب الهامشية وأقلام الأجيال الصاعدة، وقد بدأ كاتباً للقصة القصيرة قبل أن ينطلق في فضاء النقد، ويقدم حُزمة كتب في هذا الصدد أبرزها «درجة الوعي في الكتابة»، و«جدل القراءة»، و«ظواهر نصية»، و«مساءلة الحداثة»، وصولاً إلى أحدثها بعنوان «كأن الحياة، قصّة قصيرة».
وفي حوار مع «الجريدة»، قال العوفي إن القصة القصيرة أول منزل ترعرع فيه أدبياً، معتبراً أن الكتابة الإبداعية لا تكتمل إلا بالقراءة الإبداعية، وموضحاً أن المنهج لديه مرجعية فكرية متجددة لا قواعد ووصايا ومساطر محفوظة... وفيما يلي نص الحوار:

• بدأت مشوارك الأدبي قاصاً ثم اتجهت للنقد، ما السبب وخاصة أنك لم تعد للقصة رغم مرور نحو أربعين عاماً؟

- للقصة القصيرة منزلة خاصة في نفسي، فهي المنزل الأول الذي ترعْرعت فيه أدبياً. والمرء مهما نقّل هواه يظل حنينه أبداً لأول منزل، كما قال أبوتمام، وإن كان هذا الحنين مؤجلاً باستمرار.

وقد كتبتُ القصة القصيرة عشية الستينيات من القرن الماضي، عاشقاً لها ولخفّتها التي لا تحتمل حسب تعبير كونديرا، بعد قراءات طويلة وجميلة لأهم رموزها ونماذجها الغربية والعربية، تشيكوف، وموبسان، وإدجار ألان بو، وهمنغواي، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وزكريا تامر.. إلخ.

ومع طلائع السبعينيات توقفتُ عن كتابة القصة القصيرة وفي نفسي شيء منها، واتجهت للكتابة النقدية، وكنت مسُوقاً إلى ذلك بعد تأمّل وئيد في المشهد الأدبي المغربي في تلك الفترة، حيث كان مقعد النقد الأدبي المغربي شاغراً أو شبه فارغ، في مقابل الحراك الإبداعي الدؤوب على صعيد القصيدة والقصة والرواية، وكانت المعادلة في نظري غير متكافئة، فشمّرْتُ للكتابة النقدية، ومع هذه الانعطافة النقدية، ظلت القصة القصيرة في صُلْب اهتماماتي النقدية، وكانت موضوعاً لأطروحتي الجامعية "مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، من التأسيس إلى التجنيس"، وآخر عنوان لكتبي هو "كأن الحياة قصة قصيرة".

• ماذا يعني النص، والمنهج بالنسبة إلى الناقد نجيب العوفي؟

- أشتغلُ حصراً على النص الأدبي، في تمثلاته الأجناسية الرئيسة (القصيدة والقصة والرواية)، ورغم تداخل وتناسل الأجناس الأدبية وتفاعل النص الأدبي وتناصّه، حسب النظرية الأدبية الحديثة، فإن ثمّة شرطاً أساسياً وبديهياً لا مناص من توفّره في أي نص أدبي، وهو نصّيته وأدبيته، انطلاقا من اللغة التي يتجسّد عبرها النص. والنص في الأساس نسيج لغوي في لُحْمته وسَداه. هو ضرب من النسج كما قال الجاحظ، وهو المعنى ذاته المتضمّن في أي نسيج مُحكم، والنصوص بهذا المعنى قليلة لكن الكلام كثير، حسب عبارة فوكو.

أما المنهج عندي، فهو اشتغال معرفي تحليلي على النص بمفاتيح علمية مرنة، تساعد على فتح بواباته وفكّ شفراته وتبيان أعطابه أيضاً، وهذه نقطة مسكوت عنها في المناهج الوصفية الحديثة.

إن المنهج بالنسبة إلى الناقد الأدبي مرجعية فكرية وارفة مفتوحة ومتجددة، لا قواعد ووصايا ومساطر محفوظة. والمنهج من ثمّ، يُبدع نصه الخاص وهو يشتغل على مَجرّة النصوص، فالكتابة الإبداعية في نظري، لا تكتمل إلا بالقراءة الإبداعية.

• الخلفية التي تحكم تفكيرك النقدي لا تزال تميل إلى الاختيارات الكلاسيكية لليسار العربي زمن المد الثوري العربي على يد النقاد الكبار، محمود أمين العالم، وغالي شكري.. إلخ. لماذا لا يزال صوت اليسار يهمس في أذنك بين الحين والآخر؟

- تُرى ماذا تغيّر في عالمنا العربي منذ الفترة الستينية والسبعينية – اليسارية التي عشنا مدّها الثوري العربي كما أشرت، إلى الآن، إلى حاضرنا العربي البئيس؟ لقد أمسى عالمنا العربي في مهبّ عواصف أعتى وأقسى مما مضى وأحدقت به الفواجع من كل حدب وصوب، وربّ يوم بكيت منه فلما صرتُ في غيره بكيت عليه.

وواقع بئيس كهذا يحتاج إلى ثورة ثقافية وسياسية وعلمية باسلة وطويلة النفس تتصدّى للأعطاب الوبيلة التي تنخر الكيان العربي.

إن الأفكار الكبيرة كما تعلم، لا تموت. واليسار فكرة كبيرة تغذّت من روافد فكرية وفلسفية كبيرة ووقائع تاريخية ساخنة، وما أحوجنا في ظل هذا الانحطاط العربي الجديد إلى مدّ ثوري عربي جديد يواجه الأوضاع المتردية، بوعي جديد وعزم حديد.

والنقاد الكبار من عيار محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وغالي شكري ومحمد مندور وحسين مروة ومحمد دكروب.. إلخ، هم الذين ضخوا الدماء الحارة في أوصال نقدنا الحديث وربطوه بالأفكار الكبيرة والهموم الكبيرة.

• أنت من أكثر النقاد العرب تقديماً للتجارب الأدبية مع ميل إلى التجارب الهامشية، حدثنا عن ذلك.

- معظم النقاد يجْنحون إلى مُقاربة الأسماء المعروفة المالئة الدنيا والشّاغلة الناس. ومن قصَد البحر استقلّ السواقيَ، وقد لفت انتباهي عبر اشتغالي الطويل على النصوص الأدبية، أنه يوجد أحياناً في الأنهار ما لا يوجد في البحار. وأنّ كثيراً من الأسماء المالئة الدنيا والشاغلة الناس تراوح مكانها بهذه الصيغة أو تلك. ومن ثمّ يمّمتُ وجهي شطر الأعمال الأدبية الجديدة والهامشية التي تكتبها الأجيال الجديدة الصاعدة، مدفوعاً بحافز آخر مُهم وحسّاس، هو ربط أواصر القُرْبى والتواصل بين الخلف والسلف، وتشجيع المواهب والوعود الجديدة. وقبل هذا وبعده، تشجيع الكتابة باللغة العربية، في زمن أضحت فيه حال العربية أضعف من اليتيم في مأدبة اللئيم.

• ما أثر التحولات الاجتماعية المستجدة في الأدب عموماً وعلى النقد بوجه خاص؟

- يمكن القول بأن التحوّلات الاجتماعية والسياسية الأخيرة التي رجّت العالم العربي وأتت على أخضره ويابسه وجعلت أعاليه أسافله، مسّت الأدب في الدرجة الأولى، شعراً وقصة ورواية. وكانت الرواية بوجه خاص هي المجال الحيوي لرصد هذه التحولات والتفاعلات واستثمارها إبداعياً. ولا أرى أن النقد الأدبي تحوّل كثيراً مع هذه التحولات. لا أراه قد بلور رؤية جديدة أو لغة جديدة أو مصطلحاً جديداً في تفاعله مع هذه التحولات ومقاربته للأعمال الأدبية.

وفي غمْرة هذه التحولات الاجتماعية والسياسية التراجيدية، تبقى الثقافة والأدب، بلا مبالغة أو شطط، هما النجمة المضيئة الآن في ليلنا العربي الطويل حسب عبارة عبدالله العروي.

• يلاحظ في نقدك للأعمال الأدبية، أنك لم تكن سجين النظرة الأحادية التي تقيد النص بالمنهج، بل جعلت المنهج في خدمة النص، هل يمكن تفسير خافية هذا الاختيار؟

- لا لأحادية المنهج ودوغمائيته، وأهلاً بتعدد وتفاعل المناهج بتعدّد القراءات والمقاربات وتعدّد النصوص والأعمال الأدبية. والنصوص من قبل هي موضوع المناهج وغايتها. والمناهج كما قال جيرار جينيت، لا تفتح كل الأبواب، لذلك هي في تجدّد مستمر. وتبقى للناقد فسحة معرفية وأدبية واسعة لترويض المناهج وإعادة إنتاجها. تبقى له فسحة أدبية واسعة لكتابة نصّه النقدي الخاص الحامل لبصمته، وليس فقط لبصمة المنهج المشتركة بين النقاد، وهذا بالضبط، ما أحاول اجتراحه بكل تواضع واجتهاد.

النقد لم يبلور رؤية جديدة تناسب التحوّلات التي رجّت العالم العربي
back to top