بعيداً عن هموم... الكورونا! (2-2)

نشر في 12-03-2020
آخر تحديث 12-03-2020 | 00:10
 خليل علي حيدر من المقالات التي لفتت نظري في عدد العربي الجديد مقال "متشائم" عن واقع الحضارة الغربية للدكتور عبدالله الجسمي، أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت بعنوان "لماذا أخفق التنوير الأوروبي؟" وكان د. الجسمي قد أبدى كذلك شكوكه من واقع الحداثة الثقافية العربية، العربي، ديسمبر 2019، وذلك لكثرة الحواجز والموانع التي جابهتها هذه الثقافة ولا تزال تلقاها في المجتمعات العربية والتيارات الأصولية الدينية والمتشددة وغيرها.

إن ما نحتاج إليه في العالم العربي اليوم، يقول د. الجسمي، "هو أخذ مسألة التحديث الثقافي مأخذ الجد، لأنه لا يمكن أن نتطور فكرياً وحضارياً في ظل ثقافة أو ثقافات تقليدية لا تتماشى مع واقع العالم المعاصر، وهذه الثقافات هي المسؤولة عن الظواهر السلبية التي نعيشها، إذ تحتوي على قيم الإقصاء والعصبيات والتسلط، ومهما حاولنا أن ننشر أفكاراً أو قيما حداثية، حتى لو أخذت شكل قوانين، فلن يمكن قبولها وتطبيقها إلا من خلال ثقافة منفتحة تمارس فيها هذه القيم".

ونبه د. الجسمي إلى ضرورة التمييز بين الثقافة الراسخة والمستمرة في المجتمع، وبين ما يسود في ذلك المجتمع من فكر وعقائد في مرحلة ما لأسباب سياسية أو اقتصادية، فقال في نهاية مقاله: "لابد من تأكيد أن الثقافة أقوى من الفكر، فهي التي تحتضنه، وهي نتاج الواقع المادي وقيمها تمارس يومياً بشكل علمي، بينما الفكر هو نتاج العقل ويصاغ نظرياً والربط بين أفكاره يتم عقليا لا واقعياً، ويدعو إلى ما يجب أن يكون، وكم من فكر أو أيديولوجيا خلال مسيرة التاريخ ذهبت أدراج الرياح، بينما لا تزال الثقافات حاضرة وبعضها منذ آلاف السنين".

(العربي، العدد 733).

ولكن كيف يرجى ازدهار "الحداثة العربية"، في حين يقر الأستاذ الفاضل "بإخفاق التنوير الأوروبي"؟

ثم أليس التهجم على هذا التنوير الأوروبي ووليدته "الحداثة العربية"، التي فشلنا في توليدها بكامل صحتها في العالم العربي وفي البلدان الإسلامية، أبرز أركان الدعاية والأسلحة الفكرية لجماعات وأحزاب الإسلام السياسي منذ فترة طويلة، وبخاصة منذ هزيمة يونيو 1967، بل قبل ذلك، مع صدور بعض مؤلفات "أنور الجندي"، وكتاب د. محمد البهي "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي"، الذي توالت طبعاته منذ عام 1957؟

يشير د. الجسمي إلى بعض علل التنوير وأمراض الحضارة الغربية، وينتقد بعض أعلام الفكر، ويفتح النار على الرأسمالية والاشتراكية معاً.

بدأت خيانة مُثُل التنوير، في تحليل د. الجسمي، بصعود الرأسمالية التي سادت قيمها النفعية والإنتاجية المجتمعات الغربية ثم امتدت إلى العالم من خلال التجارة والاستعمار وغير ذلك، ويشرح قائلاً: "كانت طبيعة النظام الرأسمالي أحد أبرز العوامل التي ساهمت في إجهاض النزعة الإنسانية ذات البعد التنويري، فعلى المستوى الوطني مارس الرأسماليون الاستغلال والقمع والبطش أحيانا والتفرقة الاجتماعية الحادة مع فئات المجتمع، فقد كان العمال يعملون بلا حقوق تذكر وبأجور متدنية، ويستغلون بشكل كبير، واعتبروا مع الفئات الأخرى من المهمشين، فالتعامل مع الفئات الاجتماعية الدنيا لم يعكس النزعة الإنسانية التي نادت بها النخب المفكرة والفلاسفة في العصر الحديث".

ويضيف "وانعكس هذا الأمر بشكل عنصري بشع غابت عنه أدنى المعايير الإنسانية في التعامل مع شعوب المستعمرات الأوروبية وتجارة الرقيق، حيث تم التعامل بوحشية في معظم الأحيان، ناهيك عن القمع والتجهيل ونهب المستعمرات بطريقة تفتقر لأدنى المعايير الأخلاقية والإنسانية".

وينتقد د. الجسمي الحضارة الغربية في قادتها ومفكريها البارزين، ويشير إلى تناقضاتهم السلوكية مع ماكانوا يدعون إليه.

وسرعان ما طغت على الغرب "النزعة القومية التي غذتها النزعة الوطنية للطبقة الرأسمالية، وتحولت القومية إلى العنصرية وضاع فيها الإنسان".

من ناحية أخرى، يهاجم د. الجسمي "جون لوك" و"فولتير" و"كانط" قائلاً: "لم يطبق النزعة الإنسانية حتى من صاغ العديد من أفكارها مثل بعض الفلاسفة، فعلى الرغم من سعي كثير منهم إلى صياغة رؤية جديدة للإنسانية، اتضح مع الوقت وكأنها تصاغ للإنسان الأوروبي فقط.

فهناك ممارسات وأفكار لعدد من أبرز رواد التنوير لم يكن فيها اتساق مع ما كانوا يدعون إليه، فنجد مثلا جون لوك وفولتير اللذين دعا كل منهما إلى رفض تجارة الرقيق في أميركا كانا مساهمين في شركات لتجارة الرقيق، وهناك من يعمل منهم في منازلهم.

أما كانط، صاحب المقالة الشهيرة عن التنوير، فقد كان يؤمن بتفوق الرجل الأبيض على بقية شعوب العالم التي برأيه لا يمكن أن تفهم أو تتطور مثلما يفهم.

ويتطور الرجل الأبيض، ومن جانب آخر فقد أضاع بعض فلاسفة العصر الحديث، أمثال هيغل وماركس، الإنسان بأفكارهم الشمولية التي طرحوها، فسلبوا إرادته وجعلوه أسير تطورات لا يستطيع إيقافها أو الفكاك فيها. فالروح المطلقة أو الإرادة الكلية عند هيغل وقوانين التطور التاريخي للمجتمع عند ماركس همشتا الإنسان وحريته وجيرتا إنجازاته لحتمية مستقبلية محددة لا مجال للتملص منها. وقد مثلت تلك الأفكار ذروة الفكر الفلسفي في العصر الحديث، وهيمنت على القرن التاسع عشر".

تم تصدير كل هذا إلى القرن اللاحق! ويتابع د. الجسمي نقده، فيهاجم النظامين اللذين سادا القرن الماضي، ويقول: شهد القرن العشرين نموذجا اشتراكياً مستمداً من أفكار ماركس طوره لينين وغيره وانتهى بأنظمة غير ديمقراطية قمعت الإنسان وجردته من حريته ونمطت فكره وحياته، وفرضت عليه أيديولوجيتها قسراً".

من ناحية أخرى وقعت التوجهات الإنسانية في الحضارة الحديثة ضحية لسياسات ربما لم تكن أيديولوجية كالاشتراكية، فيقول: "أجهضت الطبقة الرأسمالية ومصالحها، والفكر القومي وأطروحاته الشوفينية والعنصرية، والازدواجية بين الفكر والممارسة وتجريد الإنسان بالفكر الأيديولوجي الشمولي من إنسانيته، النزعة الإنسانية إحدى ركائز التنوير المهمة".

ولم يسلم العلم نفسه، أبرز حصون التنوير وتقدم الإنسان، من ضغوط التسييس والأدلجة في العالم الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء، ففي الشرق تم إخضاع العلم لسلطة الأيديولوجيا وهيمنة الرؤى الماركسية عليه، وفي الغرب، يضيف الباحث، تم "تسييس العلم، وإلى حد ما أدلجته، خصوصاً أثناء الحرب الباردة التي استمرت حتى نهاية العقد التاسع من القرن العشرين".

وهكذا انفتح المجال للتشكيك في العقل والعلوم، وبخاصة في ظل سيادة الأيديولوجية النازية والسياسات الفاشية.

ماذا عن الجزء الذي لم يستسلم للنازية والقومية من القوى والدول الغربية؟ ويشعر د.الجسمي في نهاية مقاله بعد أن هدم ما هدم وتوغل في خرائب النظم والأيديولوجيات ببعض الخوف والوحشة! فيحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من قيم التنوير، فيهتف محذراً: "في حقيقة الأمر، إن من أخفق ليس أفكار التنوير وقيمه، بل الإنسان الذي لم يكن أهلا لها!!"،

وإن أستاذ الفلسفة لا يصرخ في البيداء والأرض الخراب منفرداً! ولا شك أن الكثير من القضايا التي يثيرها د.عبدالله الجسمي وجيهة وجديرة حقا بالتأمل، كما أنها كذلك من الانتقادات التي وجهت دوماً للنظامين اللذين سادا القرن الماضي وللحضارة الغربية عموماً ولا تزال!

ولكن ماذا عن الإنجازات المادية العلمية والتكنولوجية والطبية وآلاف المنجزات الأخرى لهذه الحضارة التي وحدت اليوم العالم، وهيمنت على الإنسان المعاصر؟ وماذا عن القيم الإنسانية الجديرة والثوابت الدولية، والهيئات العالمية الراسخة وغير ذلك التي أوجدتها في بعض المراحل؟ وماذا عن ازدهار التعاون الدولي، وعولمة المشاعر والمجهودات البشرية والعلاقات المتشابكة في كل صوب واتجاه، والكثير الكثير غير ذلك؟ ألا يعد ذلك أيضاً ترجمة واقعية لبعض أحلام ودعوات التنوير، أو ربما بمثابة "عصر تنوير" جديد؟ ألا يحتمل كذلك أن يستمر مثل هذا النقاش والجدل لسنوات قادمة؟

نواصل الحديث عن مقالات أخرى في مجلة العربي... العدد الأخير! ربما بعد أن تنتهي أزمة كورونا ومخاطرها!

back to top