نحو فهم أفضل للعلمانية (1)

نشر في 09-03-2020
آخر تحديث 09-03-2020 | 00:09
 د. عبدالحميد الأنصاري لم يتعرض مفهوم معرفي مستورد لأشكال من التشويه وسوء الفهم كما "العلمانية" في الفضاء الثقافي العربي، من الإسلاميين وبعض العلمانيين، لعاملين رئيسين:

الأول: تطبيقي: تجربة أتاتورك المشوهة للعلمانية:

إذ شن حرباً واسعة على الدين والتاريخ الإسلامي واللغة العربية والحجاب، فخلف مرارات هائلة في المجتمعات العربية والإسلامية، كما أضافت تجربتا (بورقيبة، تونس) و(رضا شاه، إيران) المزيد من التشويه إلى المفهوم.

الثاني: نظري: تمثل في إشكاليات معرفية، أبرزها:

1- إشكالية الترجمة: فقد قرأت العلمانية وفق قراءتين: علمانية بكسر العين، اشتقاقاً من "العلم" وعلمانية بفتح العين، من "العالم" أي الدنيا، وكلا التفسيرين لا علاقة لهما بالمعنى الأصلي: اليوناني، فاللاتيني، ثم الفرنسي للعلمانية (اللائكية) والتي تعني الانتماء إلى "الشعب" أو "عامة الناس" أو "الخلق" أو "الناس" في مقابل "رجال الدين".

2- إشكالية فصل الدين عن "الدولة" أو "السياسة" أو "الشأن العام": وهو فهم خاطئ يسود الأدبيات العربية عامة، والإسلامية خاصة، والصحيح أن العلمانية تعني فصل الكنائس (أي المؤسسات الدينية) لا "الدين" عن "الدولة" أو "السياسة" أو "الشأن العام"، وهناك فرق بين "المؤسسة الدينية" و"الدين"، إذ تعني العلمانية بفصل (مؤسسة الدين) عن الحكم والإدارة، بمعنى عدم تدخل رجال الدين في شؤون الدولة، لا نفي الدين عن "الحياة" أو "المجتمع" أو "الشأن العام" أو "السياسة"، إذ لا يزال الدين المسيحي، هو الإرث الأساسي للثقافة الأوروبية، كما أن الأحزاب المسيحية تؤدي دوراً بارزاً في الحياة الأوروبية.

3- إشكالية الخلط بين "العلمانية" و"الدنيوية" أو "الدهرية" مما دفع البعض إلى القول بأن التراث العربي الإسلامي عرف العلمانية، استناداً إلى النزعات الفلسفية المادية في فكر بعض العلماء المسلمين، وهذا غير دقيق، لأن مرجعية هؤلاء كانت الإسلام، ولم ينادوا بفصل المؤسسة الدينية عن الحكم، فضلاً عن أن العلمانية تختلف عن "الدنيوية".

4- إشكالية الخلط بين "العلمانية" و"العلمية": ظناً أن العلمانية مشتقة من العلم، وهذا وهم، سببه الترجمة الخاطئة عن الأصل الفرنسي، إذ لاعلاقة للعلم ومذاهبه بالعلمانية.

5- إشكالية ربط "العلمانية" بـ"الإلحاد": بناء على مقولة "كل الملحدين هم علمانيون" ونتيجة خاطئة، إذاً "كل العلمانيين هم ملحدون"، فالملحدون هم حقاً علمانيون لرفضهم "الإلهي" ورفضهم نفوذ القائلين به على الدولة، لكن لا نستطيع أن نعكس المقولة منطقياً ونقول "كل العلمانيين هم ملحدون" لأن العلماني وإن اتفق مع الملحد في إقصاء نفوذ المؤسسات الدينية عن الدولة، لكنه ليس بالضرورة أن ينكر الإله.

6- إشكالية "العلمانية" بين "الدينية" و"اللادينية": والحقيقة أن العلمانية لا تُعنى بقضايا الإيمان الديني أو عدمه.

7- إشكالية تقسيم "العلمانية" إلى "الشاملة" و"الجزئية" طبقاً لعبدالوهاب المسيري، رحمه الله تعالى، لكن هذا التقسيم خاطئ ومضلل، يخالف إجماع الأدبيات الأجنبية والعربية، والمعاجم والموسوعات المتخصصة، العلمانية واحدة لا تتجزأ.

8- إشكالية "العلمانية" بين "الديمقراطية" و"الدكتاتورية": يقع كثير من العلمانيين العرب، كالإسلاميين، في مطب سوء فهم العلمانية، عندما يصفون أنظمة أتوقراطية عربية بالعلمانية، كون مرجعيتها قومية أو اشتراكية، وهذا سوء فهم للعلمانية، فتلك الأنظمة التسلطية لا يجوز وصفها بالعلمانية لمجرد أنها لا تطبق الشريعة، بل ذلك إساءة لها، فالعلمانية لا تنفصل عن الديمقراطية، لأنها نشأت في سياق النضال من أجل الحرية، وليس في سياق دعم الدكتاتورية، العلمانية جزء لا يتجزأ من الديمقراطية.

9- إشكالية "العلمانية" بين "الأصيلة" و"المستوردة": حاول مفكرون عرب تأصيل العلمانية "عربياً" بالبحث عن جذورها في التاريخ الإسلامي، والنصوص التي ميزت "الديني" عن "الدنيوي" لكن ينقضها، أن الخلافة قامت منذ البداية وحتى سقوطها على المرجعية الدينية.

المحصلة: العلمانية لا تعني إقصاء الدين عن الحياة أو المجتمع أو الدولة، كما لا ترادف اللادينية أو الدنيوية أو العلمية، وللحديث بقية.

* كاتب قطري

back to top