الإصلاح أو الثورة

نشر في 23-02-2020
آخر تحديث 23-02-2020 | 00:00
قام الأميركيون بثورة سياسية حقيقية، لكنها لم تكن ثورة اجتماعية، حيث احتفظت النخب الراسخة التي قادتها بالسلطة، وكان من الـمُـفجِع أن هذه النخب لم تعالج بنجاح مسألة العبودية.
 بروجيكت سنديكيت كانت الثورات الحديثة الأكثر شهرة مسبوقة دوما بقدر متزايد من الاستقطاب وعدم القدرة على حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحة. يعمل العداء المتزايد وانعدام الثقة على تأجيج الاحتجاجات، مما يُـفضي في النهاية إلى العنف، وتزداد حدة التطرف لأن المعتدلين يجدون أنهم مضطرون إلى التحالف مع أطراف أبعد إلى اليسار أو اليمين، أما أولئك الذين يحاولون إيجاد حلول وسط مع القوى المعتدلة على الجانب الآخر فإن الحال تنتهي بهم إلى التشهير والإقصاء. كل هذا يحدث اليوم في قسم كبير من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة التي من الواضح أنها ليست على أبواب ثورة أخرى، لكنها ربما تزحف إلى مسافة أقرب إلى الثورة مع انهيار الوسط السياسي.

تبين الأمثلة التاريخية الأكثر وضوحا كيف حدث هذا في الماضي. كانت الثورة الفرنسية في عام 1789 تسترشد في البداية بِـمُـثُـل التنوير الليبرالية، لكن الملك وحكومة النبلاء قاوما خسارة المزايا المكفولة لهما، وتدخلت قوى أجنبية ضد الثورة، أما القادة المعتدلون من أمثال لافاييت، بطل الثورة الأميركية الذي أراد إقامة نظام ملكي دستوري، فقد انهالت عليهم الشتائم والإهانات على نحو متزايد من قِبَل اليسار باعتبارهم أدوات في يد النظام الملكي ومن قِـبَل اليمين بوصفهم خونة للثورة، وكان كل هذا يصب في مصلحة اليعاقبة، الذين أقاموا عهد الإرهاب واستفزوا حربا أهلية وحشية أسفرت عن مقتل مئات الآلاف.

وفي الثورة الروسية في عام 1917، تولى السلطة في البداية اشتراكيون أكثر ليبرالية واعتدالا، بقيادة ألكسندر كيرنسكي، لكنهم ارتكبوا خطأ عدم إخراج روسيا من الحرب العالمية الأولى، وعندما وجدوا أنفسهم في مواجهة جنرالات اليمين الذين حاولوا استعادة النظام الملكي، أصابهم الذعر ووزعوا الأسلحة على بلاشفة لينين، الذين استغلوا الموقف، وفي مثل هذه الحالة من الاستقطاب الشديد، ظل الاشتراكيون المعتدلون على تحالفهم مع البلاشفة إلى أن تبين لهم بعد فوات الأوان أنهم محكوم عليهم بالإبادة.

وفي إيران في عامي 1978 و1979، عندما رفض الشاه إجراء إصلاحات ديمقراطية معتدلة إلى أن فات الأوان، أطاح الإسلاميون برئيس الوزراء شابور بختيار، الليبرالي الذي سعى إلى التوصل إلى حل توفيقي، وأجبروه على الحياة في المنفى في فرنسا (حيث قتله عملاء إيرانيون في عام 1991). وبعد بختيار جاء تحالف بين الإسلاميين والراديكاليين الأكثر اعتدالا، لكن آية الله روح الله الخميني استغل ببراعة التهديد المتمثل في التدخل الخارجي وسذاجة المعتدلين لعزل ونفي الرئيس الإسلامي الوسطي أبو الحسن بني صدر، وبمجرد فرض سيطرته الكاملة، أطلق نظام الخميني موجة من القمع الدموي.

وربما نستطيع أن نستشهد بحالات أخرى: المكسيك في عام 1910، والثورات المناهضة للاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وكوبا في عام 1959، وأفغانستان عندما سقطت أولا تحت سيطرة الشيوعيين في عام 1978، قبل أن تستولي عليها حركة طالبان في عام 1996 بعد سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والدولية.

عَـبَّـر ويليام بتلر ييتس عن هذا على أفضل نحو بواحدة من أشهر قصائده، بعنوان «القدوم الثاني»، والتي كتبها عن تمرد أيرلندا ضد الحكم البريطاني في عام 1919:

«لقد تهاوى كل شيء؛

فالوسط عاجز عن الصمود

والفوضى مطلقة السراح تعيث فسادا في العالم

والمد القاتم بلون الدم غامر...

وبات أفضل الناس يفتقرون إلى الإيمان،

في حين تغمر أنفس أسوئهم حماسة عاطفية».

يتمثل الخيط الذي يربط بين مثل هذه المواقف في حقيقة مفادها أن المجتمعات لا تنقسم سياسيا إلى هذا الحد إلا بعد فترة طويلة يتبين خلالها على نحو متزايد أن الإصلاحات ضرورية، لكن أولئك في السلطة، الغافلين عن مدى الخطورة التي أصبحت عليها الأوضاع، يحولون دون اتخاذ التدابير التي كانت ستنقذ النظام. ولن نجد إلا قِلة من الأمثلة أفضل من المقابلات التي أجريت مع الشاه قبل بضع سنوات من الإطاحة به، فقد أصر على أن شعبه يحبه، وأن حكمه الأبوي أفضل كثيرا من الديمقراطية الغربية غير المنضبطة، وكان القيصر نيكولاس الثاني يتصور أنه يستطيع أن يتجاهل السخط الذي بلغ مداه قبل دخوله الحرب العالمية الأولى. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وفي بعض الحالات حتى بعد ذلك، رفضت القوى الأوروبية الاستعمارية التخلي عن سيطرتها على المناطق التي هيمنت عليها، فاستبعدت المقترحات المعتدلة للتحرك نحو الحكم الذاتي التدريجي، وفي كل الحالات، لم يسفر قمع أو تهميش الحلول الوسط المعتدلة إلا عن التطرف.

بطبيعة الحال، لا تؤدي كل أو حتى أغلب المواقف المماثلة إلى ثورات فعلية، ولكن بوسعنا أن نتعلم درسا بعينه من النتائج الأكثر تطرفا، إن تأخير الإصلاحات، أو ملاحقة الإصلاحات التي لا تحقق القدر الكافي من حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتنامية، يؤدي إلى زيادة حدة الاستقطاب. ويعجز الوسط عن الصمود، ويصبح لزاما على المعتدلين أن يختاروا: بين الانضمام إلى قادة سياسيين وإيديولوجيات أكثر تطرفا أو قبول المنفى السياسي (وإن لم يكن فعليا).

كان صعود هتلر إلى السلطة في عام 1933 من الأمثلة الكارثية، لم تكن الحلول المحافظة التقليدية (التي تسمى اليوم «النيوليبرالية») للبطالة ناجحة، وكان المحافظون يخشون ويكرهون الديمقراطيين الاجتماعيين المعتدلين إلى الحد الذي جعلهم، بدلا من محاولة التحالف معهم لخلق ما أصبح في الولايات المتحدة صفقة فرانكلين روزفلت الجديدة، يختارون وضع النازيين على رأس السلطة. وبمجرد اتخاذهم ذلك القرار تبين لهم أن افتراضهم بأنهم قادرون على السيطرة على هتلر بسهولة كان محض أوهام.

اليوم، أدت بالفعل ميول مماثلة وما يصاحبها من عنف إلى اندلاع حرب أهلية رهيبة في سورية، كما تجعل الميول ذاتها التوصل إلى التسوية أمرا أشد صعوبة في الهند، وبوليفيا وأماكن أخرى في أميركا اللاتينية، وفي العراق، وإيران، ولبنان. وربما نجد مثالا آخر في هونغ كونغ، حيث تسبب حلم الاستقلال المستحيل في جعل التوصل إلى تسوية معقولة أمرا بالغ الصعوبة.

ولكن ألم تكن الحرب الثورية الأميركية في الفترة 1775-1783 مختلفة؟ قام الأميركيون بثورة سياسية حقيقية، لكنها لم تكن ثورة اجتماعية، حيث احتفظت النخب الراسخة التي قادتها بالسلطة، وكان من الـمُـفجِع أن هذه النخب لم تعالج بنجاح مسألة العبودية، فقد افترضت بعض الشخصيات البارزة أن العبودية ستموت تدريجيا من تلقاء ذاتها، لكن ما حدث هو أن المجتمع الأميركي بعد عام 1820 تقريبا أصبح مستقطبا على نحو متزايد الحدة. ففي الجنوب، بقيادة ساوث كارولينا، استولى المتطرفون على السلطة، مما جعل من المستحيل التوصل إلى أي تسوية لإنهاء العبودية تدريجيا، وكانت النتيجة اندلاع حرب أهلية شرسة إلى حد غير عادي. واليوم، لا يزال هذا الانقسام قائمان ويُـعَـد الانقسام المستمر حول الإرث المتواصل الذي خلفته ثقافة الاستعباد القائمة على العِرق سببا رئيسا، وإن لم يكن الوحيد، وراء الاستقطاب السياسي المتنامي اليوم.

إذا كان للماضي أن ينبئنا بأي شيء عن حاضر ومستقبل قسم كبير من العالم (بما في ذلك الولايات المتحدة بكل تأكيد)، فهو أنه لا يوجد بديل مستقر لدعم الوسط، حتى إن كان ذلك يتطلب التغلب على مقاومة النخب للإصلاح.

* دانيال شيروت

* أستاذ الدراسات الروسية والأوراسية في جامعة واشنطن، وأحدث مؤلفاته كتاب «أتقول إنك تريد ثورة؟: المثالية الراديكالية وعواقبها المأساوية».

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

تأخير الإصلاحات التي لا تحقق القدر الكافي من حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتنامية يؤدي إلى زيادة حدة الاستقطاب
back to top