«اللي ماله أول ماله تالي»

نشر في 14-02-2020
آخر تحديث 14-02-2020 | 00:06
 خالد اسنافي الفالح في زمن الثورة الرقمية وعصر المعلومات، حوّلت العصا السحرية للوسائط الاجتماعية كوكبَ الأرض من قرية إلى حارَة، لا تكاد تطلّ من نافذتك حتى تنكشف لك عن آخرها! فتسافر لبلدان شتى وتتعرف على ثقافاتها، وأنت لا تزال في بيتك.

لا يمنع هذا التقارب المعنوي من شد الرحال إلى تلك البقاع لنراها ملامسةً بعد أن تحسسناها عياناً، فأجوب حسابات المسافرين لاختلاس ما يلتقطونه من لحظات، يحتفظون بها في الذاكرة الجمعية للبشرية، في تلافيف هذا المخ الرقمي يغزل أناس اليوم خيوطهم بلقطاتهم وآرائهم حول كل شيء يظنونه يميّزهم، وألاحظ فيما ألاحظ بقدر تهافتهم على المستحدثات تهافتهم نحو غزو التراثات! ووحدها العمائر شاخصة في كل تلك اللقطات لتخبرنا الكثير مما عجزت أنامل البشر عن طبعه.

وأينما نولي وجوهنا شطر وجهة سياحية ما، نرى مضيف عمارتهم التقليدية على مقربة من قاعة استقبال حداثتهم، يرويان لنا حكاية أمة أبقت دروس ماضيها لجيل حاضرها يشيّد عليها دروسه لأجيال المستقبل. حتى إخوتنا الذين أعمى سواد النفط بصائرهم، يرممون قطاع السياحة عندهم بدءاً بإعادة إحياء تراثهم المادي القديم مروراً بترميم وإعادة استخدام تراث الحداثة، أملاً في استعادة ما فقدوه من نعمة البصر.

إلا هنا! فنحن هنا ندمّر كل قديم ونصف قديم، لأننا أمة الكمأة بلا جذور في الأرض، وعدمٌ إن لم يخلقنا الغيث، أمة بلا نديم تلك التي دمّرت قديمها، وتعيد بناء ما بقي منه على طريقة المحدثين! قريتنا التراثية تعيد بعث جدران المدينة القديمة بالخرسانة المسلحة والطوب الإسمنتي! قصر الشيخ خزعل آية أخرى على سوء تدبير مؤسستنا الثقافية الرسمية، التي تفكر في مسألته بعقلية المقاول، عوضاً عن جعله فرصة لإقامة محترَفات تعلّم الأجيال صنائع البناء التقليدي، نماذج أولية لعمائر قامت بإشراف الدولة في زمن الحداثة تُدَك! مجمع الصوابر؛ أول نموذج للسكن الرأسي في العاصمة، أزيل، خيمة التزلج بنظامها الإنشائي الخشبي الفريد معرّضةٌ للزوال، قصر العدل وهيبة العدالة كذلك.

العمائر ذاكرة المدن، تشيخ وتهرم ولكنها لا تنسى، تخبرنا كيف عاش ناسها فيها، أما مدينتنا، فعلى الرغم من كل جراحات التجميل طولاً وعرضاً في جسدها المتجعّد ومساحيق التزيين، يأبى مسؤولوها إلا أن يجعلوها عجوزاً خرِفا!

back to top