«السوفيات»... عندما تصوروا زماننا!

نشر في 30-01-2020
آخر تحديث 30-01-2020 | 00:10
الكتاب الذي تصفه المقدمة بـ"الكتاب الفذ" يعد وثيقة تاريخية تلخص جوانب عديدة من المجهود العلمي والتقني السوفياتي في بداية الصراع الروسي- الأميركي مع نهاية الخمسينيات، ويشار إلى أن هذا الكتاب وضع بعد أن "تم الاجتماع مع تسعة وعشرين عالما من جهابذة العلماء الروس بخصوص أبحاثهم الحالية، وسئلوا عن تنبؤاتهم".
 خليل علي حيدر دهشت كثيرا لدقة هذه البنوءة الروسية التكنولوجية وصدقها، عن مخترعات قرننا الحادي والعشرين، رغم أن النبوءة جاءت في كتاب صادر في "الاتحاد السوفياتي" عام 1957، أي منذ أكثر من ستين سنة، ملخصا آراء واجتهادات مجموعة من علماء ومخترعي تلك الدولة الكبرى التي كانت تصارع الولايات المتحدة في العديد من الميادين وبخاصة السياسية والعسكرية.

ولم تكن هذه نبوءة عسكرية أو سياسية كما اعتدنا زمن "الحرب الباردة"- كما كان يطلق على تلك المنافسة بين العملاقين- بل هي نبوءة في صميم الحياة المدنية والشخصية، وفي مجال الإلكترونيات في الاتحاد السوفياتي، اسم روسيا حتى عام 1991، الدولة التي لم يكن لها قصب السبق في الاختراعات والإلكترونيات المدنية والمستخدمة في الحياة اليومية، بل لا تزال مسبوقة في هذا الميدان من قبل دول كثيرة.

ورغم ذلك قام المؤلفان الروسيان أو السوفياتيان "ميخائيل فاسيلييف" و"سيرجي جوستشف" بتأليف كتاب بعنوان "الحياة في القرن الحادي والعشرين"، ترجمة أحمد محمود سليمان، ونشر في القاهرة عام 1957 أو نحو ذلك، فالكتاب كما يقال (ب. ت) أي "بدون تاريخ"! غير أنه يتحدث عن قرننا هذا الذي نعيشه اليوم.

دهشت على وجه الخصوص لكلامهما عن فن التصوير الفوتوغرافي والكاميرات، فالتصوير الضوئي، يقول المؤلفان، اخترع عام 1839، غير أنه "كان على الإنسان لكي يحصل على صورة له في تلك الأيام أن يقف ساكناً جامداً نصف ساعة في وضع واحد، وسحنته لا تتغير، وقبل حلول النصف الثاني من القرن العشرين هبط الوقت اللازم لأخذ صورة فوتوغرافية خمسين مليون مرة تقريبا"! ولا أدري إلى كم هبط الوقت حاليا، عام 2020، في زمننا الراهن، حيث سمعت اليوم عن كاميرات تصور بأعداد مذهلة من اللقطات في ثانية واحدة.

ويعجب الكثير منا اليوم وبخاصة بعد طول عشرة مع التصوير الفوتوغرافي القديم، كيف انتهت بهذا الجفاء والقسوة علاقة الفيلم بالتصوير الفوتوغرافي، وزالت طقوس ومستلزمات التصوير، فلم نعد نسمع بتحميض الصور واحتراق شريط الفيلم وما فيه من صور، أو "ضياع البكرة" في البيت أو الاستديو، وبات مصورا ماهرا كل من يحمل أو تحمل هاتفا نقالا، يصور ما يشاء يمنة ويسرة، ويرصد كل حركة وابتسامة، ويرسلها فوراً إن شاء ثابتة أو على شكل "فيديو" إلى أقصى البلاد، وأبعد الأصقاع والقارات، "محمضة" مطبوعة ملونة على الهواء والفضاء الافتراضي، مهما كان عدد الصور المرسلة بدون الاكتراث بـ"النجتف" أو مسودة الصورة التي كانت تسوِّد كل وجه وكل ما هو أبيض، وتبيّض كل ما هو أسود!

النبوءة الروسية التي أدهشتني في هذا "الكتاب السوفياتي" عن حياة الناس في القرن الحادي والعشرين، ما جاء فيه قبل ستين عاما عن التصوير في زماننا الحالي، وقد تساءل المؤلفان وأجابا!

جاء في الكتاب: "هل ستتغير أيضا عمليات التصوير إلى درجة كبيرة؟ من الممكن جداً أن يحل التصوير الكهربي محل التصوير الكيماوي المستعمل في الوقت الحاضر، ولا يزال هذا التصوير في مرحلته البدائية، في المرحلة نفسها التي وجد التصوير الكيماوي فيها نفسه من عدة سنين، ولكن من المؤكد أنه سيرقى ويصل حد الكمال، إن التصوير الكهربي أو بمنعى أبسط التصوير غير التحميضي أو الجاف هو أحد الأمور التي تستخدم فيها المواد نصف الموصلة التي ستترك أثراً عميقا على العلم والحياة في القرن الحادي والعشرين". (ص222).

ومضى الكتاب يشرح ميزات الأسلوب الجديد في التصوير ومزاياه، فقال: "إن للتصوير الكهربي عدداً من المزايا، فالمادة نفسها والشريط نفسه يمكن استعمالها عدة مرات، ويمكن الحصول على الصورة بدرجة أسرع كثيرا، يمكن الحصول عليها فعلا في ثانية. إن عملية طبع الصور عملية تتم دون تحميض، وهناك ميزة أخرى لهذا النظام وهي أن الفيلم يظل محصنا ضد النشاط الإشعاعي، وأعتقد أن السينما ستستعمل أيضا هذا النوع من التصوير، وأنه ستُصنع آلات تصوير سينمائية كهربية خاصة".

وأشار كتاب "فاسيلييف" وزميله إلى عيوب الأفلام المستخدمة في مختلف الدور السينمائية، وتنبأ بالتقنيات الجديدة القادمة: "أود أن أقول شيئا عن التغييرات التي ستحدث في صناعة الفيلم، خاصة ما يختص منها بالقاعدة التي يقوم عليها وضع طبقة المادة الحساسة للضوء التي تغلف الأفلام، إن بها اليوم سلسلة من العيوب: ضعف مقاومتها للرطوبة وميلها لأن تكون هشة... إلخ. ومن المؤكد أنه سيكون لدينا فيلم يستحيل تشويهه كما سيكون أشد تماسكا بكثير، سيكون أكثر مرونة وأقل عرضا حتى يمكن أن تحتوي بكرة لف واحدة فيلما كاملا". (ص223).

وأشار الكتاب إلى التطوير في دور السينما فقال: "هيا بنا نزود سينما كبيرة من دور سينما القرن الحادي والعشرين، إن عرضها أكبر من طولها، سقف عال، تكييف، مقاعد مريحة جدا...".

وقارنها المؤلفان بدور السينما السوفياتية آنذاك، فالكتاب كان موجها أساسا لقراء الاتحاد السوفياتي أكثر من غيرهم، فقال إن دور السينما في القرن القادم "لا تشبه دور السينما اليوم، بما فيها من ألواج صغيرة- جمع لوج أو بلكونة- عديمة النوافذ، غير مجددة الهواء ومقاعد مكتظة في صفوف متراصة، سيشعر الإنسان في سينما المستقبل في الأيام الحارة بهواء عليل يشرح الصدر وفي الشتاء بأنس ودفء، وستغطى شاشة عظيمة عرضها خمسين ياردة نصف عرض الصالة، وبدلا من حجرة واحدة لآلات العرض ستكون هناك عدة حجرات بأجهزة تواقتية. تنطفئ الأنوار حول السقف ببطء وتظل الصالة برهة في الظلام حتى تسطع الشاشة". وقد لفتت نظري كذلك كلمة "تواقتية" بمعنى "متزامنة"، وهي اشتقاق من كلمة "الوقت"، ولكنها لم تشع وتنتشر انتشار الثانية أي "متزامنة"!

وسنرى جوانب أخرى من تنبؤات الروس عام 1957:

الكتاب الذي تصفه المقدمة بـ"الكتاب الفذ" يعد وثيقة تاريخية تلخص جوانب عديدة من المجهود العلمي والتقني السوفياتي في بداية الصراع الروسي- الأميركي مع نهاية الخمسينيات، ويشار إلى أن الكتاب وضع بعد أن "تم الاجتماع مع تسعة وعشرين عالما من جهابذة العلماء الروس بخصوص أبحاثهم الحالية، وسئلوا عن تنبؤاتهم المؤسسة على دراسات دقيقة فيما يختص بالتطورات المحتملة في الخمسين عاما المقبلة".

وأضافت المقدمة مؤكدة أن صورة الحياة التي تبدو في صورة مثيرة في كثير من الوجوه لكنها تستند إلى آراء خبراء مشهود لهم بمنزلة علمية لا منازع فيها، جازفوا بسمعتهم حيال دقتها وكافة احتمالاتها" (ص3).

ماذا عن مستقبل تقدم العلوم في تنبؤاتهم؟ وماذا كانت تنبؤات الأميركيين عن زماننا؟

back to top