الرواية؛ الفكرة والنشر (2-2)

نشر في 22-01-2020
آخر تحديث 22-01-2020 | 00:05
 طالب الرفاعي الراوي الشفاهي يقابل الآخر/ المُتلقي، وهما في لحظة زمنية ومكان مشترك. الراوي ينتقل إلى زمن سابق أو زمنٍ آتٍ انطلاقاً من لحظة زمنه الماثلة. وهو بذلك يستخدم خياله في تذكّر ماضٍ أو توقع مستقبل، وكلا التذكر والتوقع يتصلان بلحظة القص، ولهما علاقة وطيدة بأزمان وأمكنة الحكاية. وهنا تجدر الإشارة إلى ثلاثة عناصر مهمة:

1- دور الراوي المحوري في قيادة الحكاية ومتابعته وترصّده لتلقي وفهم الآخر، انطلاقاً من علاقته بحدث الحكاية، ومخيلته ومنطوقه اللغوي.

2- طبيعة علاقة الراوي بالمتلقي، ودور الراوي في التشويق أثناء سرد أحداث الحكاية، وكشف ما خفي من مخبوءاتها، عبر أسئلة المتلقي المباشرة.

3- اجتماع الراوي والمتلقي حول مائدة الحكاية وعيشهما معاً لأحداثها.

إن أمراً مختلفاً تماماً في علاقة القارئ بالراوي والمتن الروائي. فصوت الراوي في الرواية وعبر تجلياته بضمائر السرد: (المتكلم، والمخاطب، والغائب) يمثل العلاقة الأهم بين القارئ والنص الروائي. وهي علاقة غير مباشرة ومن طرف واحد، فإذا كان الراوي الشفاهي حاضراً أمام المتلقي، فإنه يغيب عن الحضور المادي أثناء القراءة، بينما يحضر النص الروائي. ويتمثل القارئ النص بلغة وخيالات الراوي الغائب. ويشكّل النص جسراً يعبر القارئ من خلاله لفهم الحكاية التي يقصّها الراوي والاستمتاع بها. وفي حال صعب على القارئ فهم مشهدٍ، أو استغلقت عليه عبارة، فهو أمام ثلاثة خيارات: فإما إعادة القراءة لفهم المستغلق. أو إكمال القراءة مع استغلاق شيءٍ من المعنى مما قد يؤثر على متعة القراءة، أو أن يترك الكتاب إلى غير رجعة. وبالتالي بقدر ما هي مباشرة وحميمة علاقة الراوي بالمتلقي الشفاهي، فإنها معقّدة جداً وهشّة حين تنتقل لتكون علاقة القارئ مع الراوي عبر النص الروائي.

الحكاية تسلية بين الأحبة والأقرباء والأصدقاء، وهي زاد طيب لمائدة لحظات لقائهم، لكن الحكاية حين تنتقل لتكون رواية، فإن الأمر لمختلف جداً، خاصة في أوطاننا العربية. فنظرة متأملة لكثير من الروايات، وربما الروايات الشبابية تحديداً، تكشف عن مستوى بائس. ليس فقط في افتقار هذه الروايات للعناصر الفنية الضرورية لجنس الرواية، ولكن في عجز الناشر العربي عن تقديم وجه مشرق لصنعة وصناعة الكتاب العربي.

إن المسافة الفاصلة بين كتابة رواية ونشرها مسافة طويلة وبمراحل متعددة، فالكاتب حين ينتهي دوره بكتابة النص في صورته الأولى، يبدأ في المراجعات: مرة ومرتين وثلاثاً وخمساً وعشراً، ولحين يستشعر أنه قد أنهى عمله الروائي على خير وجه. بعد ذلك من المفترض أن تبدأ مراحل أخرى مهمة حيث:

- مراجعة النص الروائي من قِبل مصحح لغوي متمرس للتأكد من الإملاء والنحو والصرف وعلامات التنقيط.

- مراجعة النص فنياً من قِبل ناقد أو قارئ محترف للتأكد من توفره على عناصر الكتابة الروائية.

- مراجعة النص بكليته للوقوف على رؤية الكاتب ورسالة النص الروائي الإجمالية.

في أوروبا وأميركا وحتى دول شرق آسيا، نهضت منذ عقود صناعة الكتاب الأدبي: الشعر والقصة والرواية والمسرح، على موهبة وخبرة وتجدد فكر الكاتب، إلى جانب جهد المراجع. ففي كل دار نشر غربية، يحتل المراجعون قسماً كبيراً ومهماً من أعمال تلك الدار، ويلعبون دورين مهمين هما:

1- تصحيح مادة النص، والتأكد من أنه يتوفر على الشروط الفنية الأساسية للجنس الأدبي.

2- التأكد من تقديم نص يمس القارئ ويستحوذ على اهتمامه.

المراجعون لإنجاز المهمتين أعلاه، هم باتصال وتواصل مع المؤلف من جهة ومع صناعة وسوق الكتاب من جهة ثانية. فالمراجعة تبدأ بالإملاء والقواعد، وتنتهي إلى مدى قدرة النص على تشكيل مادة فنية مشوّقة للقارئ، متماشية مع اللحظة الفكرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية التي ينتمي إليها الكاتب والمراجع والقارئ.

صحيح أن هناك الجيد والأقل جودة في سوق الكتاب الأدبي الغربي، لكن الصحيح أيضا أن دور النشر الغربية تعتني بالنص الأدبي قبل أن تدفع به إلى القارئ حرصاً منها على الكاتب والكتاب والناشر والقارئ، وليت صناعة النشر الأدبي العربي تنتبه لدورها الثقافي المهم في تقديم النص الجيد للقارئ، بدل أن يتحول سوق النشر لتجارة رائجة لا تراعي أصولاً ثقافية مهمة.

back to top