رياح وأوتاد: عجز الميزانية بين الإنكار والإسقاط

نشر في 20-01-2020
آخر تحديث 20-01-2020 | 00:10
إن إنكار العجز وإسقاطه على حوادث الفساد لن ينفعا في مواجهة مشكلة العجز، وهي واقع وحقيقي، ولكن الأفضل هو الاعتراف بوجود اختلالات مالية وهيكلية، وهي التي إذا لم تعالج فستذهب بالميزانية وبمستقبل أجيالنا لا صندوقهم فقط.
 أحمد يعقوب باقر تراوحت ردود فعل كثير من المدونين وبعض النواب على إعلان العجز في مشروع الميزانية بين الإنكار والإسقاط. ويعلم كل مطلع، ناهيك عن المتخصصين، أن العجز حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، وذلك أن الدخل النفطي يشكل نحو 90% من إيرادات الميزانية، وأن أسعاره منخفضة حالياً، لذلك تم وضع سعر تقديري لبرميل النفط، وهو سعر متحفظ عند 55 دولاراً للبرميل، ولكن حتى إذا تم بيع البرميل بسعر 65 أو حتى 70 دولاراً، فلا يمكن تغطية المصروفات الحالية في الميزانية من دخل النفط وحده.

وقد رأينا كيف تم تعويض العجز في السنوات الأربع الماضية من الاحتياطي العام حتى انخفضت السيولة فيه من 44 مليار دينار إلى 7 مليارات دينار حالياً، (رغم ارتفاع سعر النفط عن المقدر في الميزانية)، لذلك فإن البحث عن موارد أخرى للدخل وتقليص المصروفات هما الحل الجذري لهذا الاختلال الهيكلي في المالية العامة والميزانية.

والحقيقة الأخرى التي لا يمكن إنكارها هي أن المصروفات العامة تزداد سنويًا، وذلك لأن الشعب الكويتي ينمو بنسبة 2.25% سنوياً، ومن المتوقع أن نصل إلى مليونين ونصف المليون كويتي عام 2035، وستزداد بالتالي حاجتنا إلى المدارس والمستشفيات والطرق والمنازل والوظائف، فلنتخيل كم ستبلغ مصروفات الميزانية في ذلك التاريخ إذا لم نعمل على خلق مصدر آخر للدخل.

أما المنكرون للعجز فيؤكدون أن المركز المالي للدولة ممتاز بسبب وجود صندوق احتياطي الأجيال القادمة، ويطالبون بسحب أجزاء منه أو سحب إيراداته، وهو لا شك إجراء غير صحيح، لأنه متى ما بدأ السحب دون إصلاح حقيقي للميزانية وخلق موارد إضافية فسيكون مصيره مثل مصير الاحتياطي العام، أي أنه سينفد في سنوات قليلة، وستتبخر فائدة إنشائه الذي تم على يد الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، ليكون ذخرًا للكويتيين في حالة الكوارث أو الحروب، وبالفعل فقد قام هذا الصندوق بتغطية نفقات الإعاشة والتحرير وإعادة الإعمار أثناء الغزو الآثم.

لذلك فإن الحديث عن العجز يكون من خلال إيرادات ومصروفات الميزانية دون إدخال صندوق احتياطي الأجيال أو عوائده، وهذا هو الأصح والأفضل.

وفي مقابل ذلك يطالب البعض بإدخال مصروفات التسليح ضمن مصروفات الميزانية، لا ضمن مصروفات الاحتياطي العام، وهو مطلب سليم تماماً، ويحقق مزيداً من الرقابة على مصروفات التسليح، ولكن يجب أن نعلم أنه إذا تم ذلك فسيزيد بند المصروفات في الميزانية بنحو 300 مليون دينار، وبالتالي سيزداد العجز المقدر في الميزانية.

أما طلب بعضهم إلغاء تحويل 10% من الإيرادات النفطية إلى صندوق الأجيال الذي يتم سنويًا فهو ممكن في حالة الضرورة، ولكن يجب العلم أن هذا المبلغ إذا أضيف للميزانية فإنه لن يكفي لسد العجز لأنه سيكون نحو مليار دينار ونصف فقط حسب أسعار النفط الحالية.

وكذلك القول بوجود إيرادات لبعض المؤسسات لم يتم إدخالها ضمن الإيرادات العامة، فإن هذا القول، وإن كان صحيحا، أي يجب إدخال إيرادات وأرباح هذه المؤسسات ضمن ايرادات الميزانية، إلا أنه يجب العلم أن هذه الإيرادات الموجودة حالياً قد تراكمت على مدى سنوات عديدة، وبالتأكيد لن تكفي إيرادات هذه المؤسسات السنوية لتغطية العجز في الميزانيات السنوية المستقبلية، بالإضافة إلى أن بعض هذه المؤسسات تحقق خسائر وعليها ديون والحكومة ملزمة بتغطية هذه الخسائر والديون من الاحتياطي العام.

أما بعض الرافضين الآخرين للعجز فيسقطون العجز على حوادث الفساد التي تمت خلال السنوات الماضية، ويستشهد بعضهم باكتشاف حالات فساد حديثة، وببعض حوادث فساد تمت منذ سنوات طويلة، ولم تعد آثارها تدخل ضمن الموازنات في السنوات الأخيرة، ولكنهم يوردونها على سبيل الإسقاط والإثارة الشعبية، ويزعمون أنها هي سبب العجز، وهم بذلك يلتمسون العذر لكي يعرضوا عن مواجهة الاختلالات الهيكلية التي تعانيها المالية العامة، والتي تسبب العجز حالياً ومستقبلاً حتى لو بذلت كل الجهود في مكافحة الفساد.

وخطورة هذا الإسقاط أن من شأنه أن يوقف كل الجهود التي تبذل من أجل الإصلاح الاقتصادي بحجة أن الفساد موجود، والصحيح أنه لا يجوز أن يكون الفساد عذرًا لوقف الجهود الرامية للإصلاح الاقتصادي ولوقف الهدر والإنفاق غير المبرر، والمطلوب شرعاً وعقلاً أن نكافح وأن نربح القضاء على الفساد في يد، وأيضاً نربح ترشيد الإنفاق وزيادة الدخل غير النفطي في اليد الأخرى.

ولا أجد عذرًا للنواب المسقطين للعجز على الفساد، إذ إنهم يملكون كل الأدوات النيابية التي تمكنهم من اكتشاف وفضح ومكافحة الفساد مثل هذه الأسئلة ولجان التحقيق والمؤتمرات الصحافية والندوات الشعبية والإحالة إلى النيابة وغيرها من الأدوات. كما لا يجوز في سبيل الإصلاح المساس برواتب الموظفين، ولكن البديل الاستراتيجي هو البديل المناسب لتحقيق العدالة ووقف التفاوت، بالإضافة إلى تطبيق فريضة الزكاة على الدخول الكبيرة، وكذلك مساهمة الشركات الحائزة مناقصات كبرى في التوظيف والميزانية وغير ذلك من الإجراءات المالية والاقتصادية.

والخلاصة أن الإنكار والإسقاط لن ينفعا في مواجهة العجز، وهو واقع وحقيقي، ولكن الأفضل هو الاعتراف بوجود اختلالات مالية وهيكلية، وهي التي إذا لم تعالج فستذهب بالميزانية وبمستقبل أجيالنا لا صندوقهم فقط.

في سبيل الإصلاح لا يجوز المساس برواتب الموظفين ولكن البديل الاستراتيجي هو البديل المناسب لتحقيق العدالة ووقف التفاوت

الحديث عن العجز يكون من خلال إيرادات ومصروفات الميزانية دون إدخال صندوق احتياطي الأجيال أو عوائده وهذا هو الأصح والأفضل
back to top