اغتيال قاسم سليماني... الأرباح والخسائر

نشر في 16-01-2020
آخر تحديث 16-01-2020 | 00:08
 يوسف ناصر الشايجي النظام الإيراني يمر في هذه الفترة بظروف حرجة وأحداث سيئة ومتلاحقة، قد تكون أسوأ مرحلة مرت به منذ انتهاء حربه مع العراق في نهاية الثمانينيات، والتي بدأت قبل شهرين تقريباً في منتصف نوفمبر الماضي باحتجاجات على رفع أسعار الوقود (البنزين) الذي تم رفع أسعاره بنسب كبيرة جداً، نظراً للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها إيران، ثم تطورت لاضطرابات داخلية راح ضحيتها العشرات بل عشرات المئات من القتلى والمصابين من المحتجين، فلم تكد هذه الاضطرابات تهدأ نتيجة القمع الشديد الذي تعرضت له حتى صُدمت بحادثة قصف الولايات المتحدة لـ"سليماني" واغتياله وإعلان ترامب عن ذلك مبرراً إياه بالثأر والدفاع عن الجنود والمصالح الأميركية في المنطقة.

تبعه بما كان متوقعاً له أن يحدث حفظا للكرامة الإيرانية رد صاروخي متعجل وباهت على قاعدتين أميركيتين خاويتين من الجنود والمعدات العسكرية، وهو ليس بمستوى التهديدات النارية التي أطلقتها إيران بالثأر لرجلها القوي، ثم أعلنت اكتفاءها بهذا الرد، فجاء بنتائج مخالفة لما كان متوقعاً له، فقد قوبل بسخرية من الرئيس الأميركي (ترامب)، وإحباط داخلي من أنصار النظام ومن ميليشياته الموالية له المنتشرة في بعض دول المنطقة، لأنه كشف حقيقة أن النظام ليس بمقدوره المواجهة العسكرية مع (ترامب) المتهور جداً، أو ربما الحاذق جداً كما سيتبين لاحقاً عند اتخاذه قرار اغتيال قاسمي.

هذه الحقيقة أدت بدورها إلى إعلان تلك الميليشيات الموالية عدم نيتها الرد على أميركا بعد أن كانت تهدد وتتوعد بعواقب الأمور، وفي أجواء هذا الفشل والتخبط من قبل نظام إيران جاء حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية ليكون "ثالثة الأثافي"، كما يقول العرب، فقد اعترف الحرس الثوري الإيراني بإسقاط الطائرة، بعد أن سبق له نفي تلك الجريمة بعدة روايات، حيث أرجع السقوط لأسباب فنية أولاً، ثم بأن قائد الطائرة لم يلتزم بالتحذيرات بعدم الطيران، ثم تالياً بأنها انحرفت عن خط الطيران المقرر لها.

وعلى إثر هذا الاعتراف خرجت المظاهرات العنيفة المحتجة والمنددة بهذه الجريمة التي راح ضحيتها (٨٢) إيرانياً مدنياً كانوا على متن الطائرة، بنيران حربية إيرانية، في ظل ظروف مواجهتها العسكرية للولايات المتحدة، وفي محاولة الثأر لسليماني، والتي كانت نتيجتها بجردة بسيطة حتى الآن ضرب قواعد أميركية مفرغة من جنودها وآلياتها العسكرية، وكشفت عن هشاشة نظامها الهجومي والدفاعي العسكري الذي تأكد من قصفها للطائرة الأوكرانية الذي نتج عنه قتل المزيد من الإيرانيين، ثم المظاهرات الحاشدة والعنيفة المنددة بإسقاط الطائرة، والتي تخللها تمزيق صور سليماني والمطالبة بتنحي خامنئي.

كل تلك التداعيات التي تلت اغتيال سليماني هي مؤشرات إيجابية تحسب، بلاشك، لقرار ترامب تصفية سليماني، مما شجعه على "طرق الحديد وهو ساخن"، فأتبعها بالإعلان عن عقوبات اقتصادية جديدة، وآخر ما صدر عنه بهذا الخصوص أن وجه تحذيراً للسلطات الإيرانية بعدم التعرض بالقوة للمظاهرات الأخيرة أو قمع المتظاهرين، والمرجح لها أن تتفاقم نتيجة لحالتي الإحباط والاستياء اللتين يعيشهما الشعب الإيراني، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

كل تلك المشاهد والمعطيات تشكل ضغوطاً هائلة، قد تقود إيران في النهاية إلى طريق واحد، وهو العودة إلى طاولة المفاوضات في الملف النووي وبشروط ترامب، وربما بمشهد تمثيلي قد يتم الترتيب له يسبق الجلوس على الطاولة، وهذا ليس بجديد، فقد تم الترتيب لمشهد قصف القاعدتين الأميركيتين في "عين الأسد"، بقصد الحفاظ على ما تبقى من كرامة ليس للنظام السياسي الإيراني بقدر ما هو للمعتقد المذهبي (ولاية الفقية) الذي يعتنقه الكثير من الإخوة الشيعة، والمتمثل في حكم وكيله (خامنئي) ومن قبله (الخميني) المؤسس لهذا النطام الإيراني، يضاف إلى تلك الضغوط ما استجد بعد حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية، وما تم تداوله أوروبياً بين الدول المشاركة في المفاوضات النووية، وهو التشكيك في قدرة إيران وكفاءة قيادتها على امتلاك قوة نووية.

فمن أساء التعامل في مثل هذا الظرف هو بالضرورة ليس كفؤاً ومؤهلاً لامتلاك قوة نووية، كل تلك الضغوط التي تواجهها إيران قد تدفع بها مرغمة إلى الجلوس على طاولة مفاوضات جديدة لعقد معاهدة نووية جديدة بشروط أكثر تشدداً، بهدف التضييق على قدرتها النووية، تتمثل في فرض المزيد من شروط الرقابة والتفتيش الدوري على مفاعلاتها، كذلك خفض المزيد من قدرات التخصيب لديها، والتقليل من حجم المخزون منه، إضافة إلى تقليص عدد الطرود المركزية التي في حوزتها حتى تتم الموافقة لها باستئناف إنتاجها النووي من جديد.

كل هذه الشروط التي سبق أن رفضتها إيران هي مجبرة على القبول بها اليوم، فالحال بالأمس غير الحال اليوم، وفي مقابل كل ذلك فإن النظام الإيراني لن يخرج خالي الوفاض، فسترفع الحجوزات عن جزء من أمواله في أميركا، وهذه ستخفف عليه كثيراً في أزمته الداخلية، وفي الوقت نفسه ستكون إمداداً في أمس الحاجة له لدعم ميليشياته التي تأثرت بالتبعية بذلك الحصار الذي فُرض عليها، كل تلك المشاهد والتوقعات ستصب في مصلحة "ترامب"، وستكون من أهم أوراقه الرابحة في معركته الرئاسية القادمة بعد عدة أشهر، والتي دخل أجواء التحضير لها منذ فترة ليست بالبعيدة.

قد تكون هذه قراءة مسبقة ومتعجلة لمشهد الصراع الأميركي الإيراني المحتدم الذي قد يتخلله بعض الأمور والتفاصيل التي لم نأت على ذكرها، ولكن تسارع الأحداث وفي مقدمتها انكشاف عجز النظام الإيراني عن المواجهة العسكرية ضد الولايات المتحدة التي بدت منه مبكراً، ومن خلال ردود أفعاله الفاشلة واعترافه بذلك بصورة قد تبدو غير مباشرة، وكذلك فعلت ميليشياته المسلحة، كل ذلك يعني أن الحديث عن المواجهة العسكرية قد انتهي تقريباً سواء رسمياً من النظام أو عبر وكلائه، وعجل للالتفات للخيار الثاني وهو "المفاوضات النووية" التي انعكست عليه أيضاً الفروقات الواضحة في مراكز القوى بين الفريقين الأميركي والإيراني.

في النهاية إذاً جاءت الخاتمة كما هو متوقع لها حسب هذا التسلسل، فإنها بالتأكيد ستعزز فرص الرئيس "ترامب" في النجاح في الانتخابات الرئاسية القادمة، فقد استرد الكثير للولايات المتحدة مما خسره الرئيس أوباما في منطقة الشرق الأوسط والخليج تحديداً، ومن خلال ملفين في غاية الأهمية: أولهما: الملف النووي الإيراني، فهو نجح أو على وشك في عقد معاهدة نووية جديدة مع إيران بشروط أميركية أكثر تشدداً من المعاهدة السابقة التي يرى فيها "تهاوناً" شجع إيران كثيراً على التمادي في عدم الالتزام بها، ويحمّل ذلك التهاون لسلفه الرئيس (أوباما) أو في الحقيقة للحزب الديمقراطي المنافس له في الانتخابات، فقد كان يأمل كثيراً تحقيق ذلك الإنجاز وهو على وشك تحقيقه في فترة وجيزة، قد يكون هو نفسه غير متوقع حدوثها بهذه السرعة، وبهذه الفترة الزمنية القصيرة.

أما الملف الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه، فهو: تحسن العلاقات مع الدول الخليجية الحليفة والمهمة، والتي تدهورت إلى أدنى مستوياتها في عهد الرئيس أوباما، واستعاد ثقتها التي فُقد الكثير منها بالسنوات الأخيرة عن طريق تصديه للنفوذ الإيراني ومحاولة تحجيمه، والذي كان مصدراً للعديد من القلاقل في المحيط الخليجي والعربي... كل ذلك مما ينبئ بتسجيله نقاطا كثيرة في صالحه قد تمهد الطريق له في سباقه نحو الفوز بفترة رئاسية ثانية ما لم تطرأ أمور وأحداث كبيرة تأتي في غير صالحه في الأشهر القليلة القادمة، منها على سبيل المثال وأبرزها على المستوى المحلي المضي من جانب خصومه الديمقراطيين في متابعة "قضية عزله" واتخاذ الإجراءات العملية المتاحة لها، والتي خفَتَ الحديث حولها والانشغال عنها أثناء حادثة اغتيال قاسمي وتداعياتها، ويُعتبر هذا الانشغال بحد ذاته مكسباً مضافاً.

بمعنى آخر أنه لو أقيمت الانتخابات الرئاسية في ظرف شهر أو أقل من الآن فإن ذلك سيكون توقيتاً مناسباً له للفوز بها لأنه حالياً هو نجم الأحداث الساخنة بالخليج والمهيمن عليها، أما وأن الانتخابات مقررة في شهر نوفمبر٢٠٢٠، أي بعد عشرة أشهر من الآن، فإن ذلك يعتمد على أدائه خلالها في قراراته وتصرفاته على المستويين المحلي والخارجي، فإن كانت مدروسة الأبعاد وموزونة حافظ على مكاسبه الأخيرة، أما إذا استمر على نهجه المتهور اللامبالي كما اعتدنا منه فقد تنقلب التوقعات رأساً على عقب.

back to top