«بحلم بيك»!!

نشر في 10-01-2020
آخر تحديث 10-01-2020 | 00:05
 عبدالهادي شلا نكبر قليلا على مهل وفي داخل كل منا طفل يتمرد أحيانا ويرضى أحيانا، دون أن يكف عن الالتفات إلى طفولته، ويتمنى لو عادت لمرة واحدة، يستحضر منها لحظات السعادة والفرح التي كانت قبل أن تباغتها الأيام بجبروتها وتقلبها.

كلما استمعت إلى أغنية المطرب عبدالحليم حافظ "بحلم بيك" حضرت في ذاكرتي صورة تجعلني أبتسم وأتمنى لو عدت ذاك الصبي الصغير.

كنت في الصف الخامس الابتدائي وقتها، أنسخ درس القراءة الذي طلبه مدرس اللغة العربية، وصوت عبدالحليم يأتي من المذياع، وأنا أردد ما يقوله بينما يدي تكتب.

في صباح اليوم التالي طلب المدرس أن يضع التلاميذ كراساتهم أمامه على الطاولة في الفصل، وأخذ يقلب فيها على عجل، ولما أمسك بكراستي أخذ يقلبها على غير عادته، فقد كان مقعدي ملاصقا لطاولته في الصفوف المتقدمة، وفجأة جلجل بضحكة أرعبتني وكل من في الفصل من التلاميذ، فقد كان مدرسا جادا تسبقه عصاه عند دخول الفصل.

مع أنني كنت من المتفوقين لا أخشى العقاب، فقد نظر إلي نظرة الحانق، الأمر الذي جعلني أتسمر في مكاني ومد يده بكراستي نحوي وهو يأمرني بأن أقرأ ما نسخت وبصوت عالٍ. بدأت ببطء والخوف يتملكني، ولكنه زجرني وأمرني مرة أخرى أن أرفع صوتي، فاسترسلت في القراءة، وتوقفت قبل أن أنطق وهو يحثني على الاستمرار، وأكملت "بحلم بيك... أنا... بحلم بيك"!

ضج الفصل بالضحك وجحظت عيون المدرس وتطاير منها غضب جعلني أرتعش خوفا، وكاد أن يتوقف قلبي، فقد كان له هيبة ربما لا يعرفها الجيل الحالي الذي ينعم بأسلوب تربوي عصري.

خيم صمت تام على الفصل قبل أن يضع يده على كتفي وبكلمات حنونة توجه للتلاميذ وأنا معهم بكلمات أبوية لم يتوقعها أحد ولم نعهدها منه، وهو يحثنا على الاستماع إلى الموسيقى، فهي تهذب الروح وتريح الأعصاب وتخلق فينا التوازن الذي لا غنى عنه لحياة مستقرة، ولكن في غير وقت القراءة والكتابة، فقد تشغلنا عن مضمون الدرس.

كان هذا في زمن مغاير تحكمه تقاليد تعليمية وتربوية صارمة، وربما يعتبر البعض هذه اللفتة من المدرس هي خروج عن العرف الذي كان سائدا. تنفستُ الصعداء وأنا أنظر إلى مدرسي باحترام كبير وشعور أبوي لم أشعر به من قبل فهو حازم وجاد.

يومها عرفت أن في داخل كل منا إنساناً آخر لا نراه ولا يتجلى لنا إلا في حالة خاصة وفي وقت ما قد لا نتوقعه،

كبرت محبا للموسيقى والجمال، وبقيت هذه الذكرى مع الأغنية تحضر في خيالي كلما استمعت إليها، وأضحك في سري وينشرح صدري لأن مدرسي كان واعياً لقيمة المشاعر الإنسانية، وقت كنت صبيا صغيراً تفتحت عيوني وقلبي على الحب والحياة!

* كاتب فلسطيني- كندا

back to top