محتوى

نشر في 10-01-2020
آخر تحديث 10-01-2020 | 00:07
 دانة الراشد اللغة هي أداة تفكير قبل أن تكون أداة تواصل وتعبير، فهي العدسة التي نرى العالم من خلال مفرداتها وتركيباتها، فنفسر الظواهر والعلاقات ما بين الأشياء من خلالها.

واللغة هي إرثٌ تاريخي يمتد إلى مئات– بل آلاف- السنين، وهي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية، فهي العمود الأول في ثقافة أي شعب، ويمكننا "تشخيص" حالة أي شعب من طريقة استخدامه وتطويره للغة، ونوعية المصطلحات الدارجة فيه.

مدهشٌ فعلاً تأثير اللغة على منظور الشخص ورؤيته للأمور، ففي عدة تجارب أُجريت في الفيلم الوثائقي "الشرق والغرب: اختلاف الثقافات" الذي يمكن مشاهدته على "اليوتيوب" (https://www.youtube.com/watch?v=ZoDtoB9Abck&t) تُعرض عدة صور على مجموعتين من الناس، مجموعة الشرق آسيويين ومجموعة "الأنجلوساكسون) الغربيين، ويُطلب منهم تفسير هذه الصور أو اختيار الإجابة "الصحيحة". كانت النتائج متباينة بشكل صادم ما بين المجموعتين، مما يعكس فارقاً كبيراً في فلسفة الحياة لدى هذين الشعبين، والتي نراها منعكسة في اللغة بشكل واضح. فاللغة الإنكليزية واللاتينية من اللغات التحليلية الفردانية، التي ترى العالم من خلال الفص الدماغي الأيسر، فهي مناسبة بشكل خاص للبحث العلمي الموضوعي، في حين تمتاز مجموعة اللغات الآسيوية برمزية تجريدية بليغة، فنلاحظ كيف يمكن اختزال فقرة كاملة بالإنكليزية في سطرين من اللغة الصينية على سبيل المثال، وهي لغة تصويرية تزدهر فيها الفلسفة والفنون بشكل خاص.

لم يتم ذكر اللغة العربية في الفيلم، لكنها لغة ذات مبادئ وفلسفة شرقية مع القليل من التأثير الغربي، كون الشرق الأوسط قريباً جغرافياً من القارة الأوروبية، فماذا حل بـ"عدستنا"؟! ما يحدث للغتنا الآن أمرٌ خطير للغاية، فهي تعاني ضعفاً وهشاشة غير مسبوقين. نحن نعاني ضعف المحتوى الموضوعي والجيد باللغة العربية، مجرد بحث بسيط على محرك "غوغل" وستدرك ما أعني! يأتينا أغلب المحتوى المترجم بعربية ركيكة وترجمة حرفية بليدة تفقد النص معناه. أخطاءٌ إملائية ونحوية كثيرة تراها حيثما تولي وجهك! لوحات إعلانية ضخمة بأخطاء إملائية فادحة، وفي مختلف الكتب والمطبوعات... نطق خاطئ وركيك في نشرات الأخبار المتلفزة، يكاد أحدنا لا يعرف الفرق بين التاء المربوطة والمفتوحة، وأغلبنا لا يعرف "غينه من قافه"، أما همزات الوصل والقطع فقد أصبحت من العلوم الغيبية!

أصابنا الاستشراق الذاتي وجلد النفس، فأخرجنا جيلاً كاملاً من العرب غير الناطقين باللغة العربية، وها نحن نداعب صغارنا بإنكليزية ركيكة، فأصبح منظور الطفل ممسوخاً. أدى كل ذلك إلى ضعف الهوية العربية والانفصال التام عنها، بل التحرج منها، فقليلٌ هم المساهمون في إحيائها.

هذه العوامل كفيلة بتدمير لغة بأكملها، وبالتالي هدم منظومة ثقافية كاملة، وإرث تاريخي امتد قروناً، فهدمناه بعقود معدودة! لذا تقع على عاتقنا مسؤولية ثقافية هائلة، فلابد من المساهمة في صنع محتوى عربي غني وعميق في شتى المجالات من أدب وفلسفة وبحث علمي وحركات ترجمة جادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

back to top