محنة لبنان المستعصية وسط ضبابية الحلول المطروحة

نشر في 03-01-2020
آخر تحديث 03-01-2020 | 00:01
مسيرات الاحتجاج ضد الفساد في لبنان
مسيرات الاحتجاج ضد الفساد في لبنان
أذكر أني سمعت القول المأثور الذي يقول «هل تريد قطف العنب أم مشاجرة الناطور» في منزل جدي في جبل لبنان، حيث نشأت وكبرت، ويتمحور هذا السؤال حول السبيل الأفضل لنيل الغاية المنشودة وطريقة الجهد التي يجب أن تتبع من أجل تحقيقها، وقد أرغم المحتجون في لبنان حكومتهم الضعيفة على الاستقالة في الشهر الماضي بعد 13 يوماً من المظاهرات السلمية وربما يتمكن المحتجون من بلوغ غايتهم الآن بعد صمودهم الطويل وإصرارهم على تحقيق مطالبهم في التغيير والإصلاح.

وشهد الطريق الى استقالة الحكومة اللبنانية موجة من العنف من جانب عملاء الحكومة وإلقاء القنابل المسيلة للدموع والاعتقالات التعسفية وعمليات قمع متزايدة من قبل الحكومة التي رفضت المطالب بتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية لإجراء عمليات محاسبة للمسؤولين عن الفساد إضافة الى الدعوة الى انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة.

ومن أجل فهم هذه الأزمة يتعين على المرء ربط النظام السياسي الحالي باتفاق الطائف الذي وضع نهاية لتسعة عشر عاماً من الصراع الطائفي والحرب الأهلية في لبنان في عام 1990 عن طريق اقامة «تعايش متبادل» بين الطوائف المختلفة في لبنان. كما أعلن أن «التمثيل السياسي الملائم» هو الهدف الرئيس من القوانين الانتخابية النيابية في فترة ما بعد نهاية الحرب الأهلية، كما أعاد بناء الميثاق الوطني السياسي واستبعد الطائفة المارونية عن التفرد بالسلطة التي كانت تتمتع بها في فترة الحكم الفرنسي، وأوكلها الى حكومة مكونة من الطوائف الثلاث الرئيسة في لبنان وهي: السنّة والشيعة والموارنة.

وفي الأعوام الثلاثين التي أعقبت اتفاق الطائف تحولت الطبقة الحاكمة الى السرقة، وبددت موارد لبنان المحدودة، وعملت على حماية سلطتها عن طريق الترهيب والمحسوبية، وقد حولت هذه السرقة لبنان الى ثالث أكثر دولة مثقلة بالديون في العالم، وجعلت ما يصل الى مليون ونصف المليون من اللبنانيين تحت خط الفقر.

وقد اعتمد الترتيب الدستوري على ثلاثة عوامل هي:

1 – قيام النخبة السياسية والاجتماعية بتأليب بعض الطوائف ضد بعضها الآخر مع استبعاد إمكانية حدوث حرب أهلية أخرى، وهو احتمال كان يلوح في الأفق بصورة دائمة.

2 – عمد أولئك الحكام إلى تعيين مسؤولين في النظام القضائي من النوع الذي يقوض العدالة لمصلحة جهات طائفية معينة.

3– تقليص سيادة البلاد عن طريق فتح الأبواب أمام التدخل الخارجي وهو ما أسهم في تشديد قبضة عملاء الداخل الذين يتبعون القوى الخارجية.

من جهة أخرى ظل الشعب اللبناني الذي كان الكثير منه لا يزال يعاني ويلات الحرب الأهلية الهدف السلبي لهذه الممارسة الحكومية حتى هذه السنة. وفي السابع عشر من شهر أكتوبر الماضي اقترحت الحكومة فرض ضريبة على خدمات الاتصالات مثل «واتساب» التي يفترض أن تكون مجانية. وجاء ذلك الاقتراح بعد عام من تخفيضات في الميزانية أثرت في الوزارات التي كانت تجهد لتقديم خدمات أساسية مثل الكهرباء ومياه الشرب والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والتربية.

وقد أضافت ضريبة الاتصالات المقترحة الزيت على النار وأطلقت في نهاية المطاف موجة من المظاهرات شملت كل مناطق لبنان، وأسفرت عن تعطيل الحياة اليومية والأنشطة الاقتصادية المختلفة، ثم استمرت موجة الاحتجاجات لأكثر من شهرين كما ظلت الطرقات المؤدية الى القصر الرئاسي تخضع لحراسة الجيش لمدة أسبوعين، وتعرض أحد المحتجين ويدعى علاء أبو فخر (38 عاماً) للقتل من قبل أحد الجنود، وتم اعتقال خمسة صغار تراوحت أعمارهم بين 10 و17 سنة من قبل أجهزة المخابرات لأنهم مزقوا صورة للرئيس عون.

مهاجمة المحتجين

ثم قامت مجموعة من المسلحين يحملون أعلام حزب الله في بيروت ومدينة صور بالطواف على دراجات نارية وهاجموا المحتجين كما حطموا الممتلكات المدنية، وجاء هذا الانزلاق السريع نحو العنف في أعقاب خطاب مثير للغضب ألقاه الرئيس عون، وقال فيه إن «من لا تعجبه الطبقة الحاكمة في لبنان يستطيع مغادرة البلاد». ويعكس هذا التصرف ما كان قاله الرئيس السوري بشار الأسد في بداية الانتفاضة السورية عن أن الخيار الوحيد المتاح لحل الأزمة يتمثل في ترك نظامه وشأنه وإلا فإنه سيحرق البلد.

ومن الأهمية بمكان أن المجتمع الدولي ينظر بجدية الى هذه الاتجاهات المثيرة للقلق ويضغط على الرئيس عون من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط، ومن شأن ذلك عزل حزب الله الذي يستمر في دعم نظام سياسي يخدم أهداف الحزب بشكل جيد.

استبدال النظام القديم

ستكون تلبية مطالب المحتجين ضرورية من أجل إرساء الأساس لنظام جديد يحل مكان النظام الساري منذ 30 عاماً ويرتكب السرقات التي أوصلت لبنان الى حافة الانهيار الاقتصادي، كما أن البلاد تشهد مرحلة من ندرة الدولار وهبوط الليرة اللبنانية بنسبة 40 في المئة، إضافة إلى أن خطوات الرقابة التي فرضتها البنوك تمنع المودعين من سحب أموالهم، وعلى الرغم من ذلك كله اضطر المحتجون بحكم التاريخ والظروف أو الترهيب الى التخلي عن أحد مطالبهم الأساسية وهو نزع ترسانة حزب الله من الأسلحة.

وتعتبر محاولة الجيش اللبناني احتكار الأسلحة هدفاً مهماً اذا كان للانتفاضة الشعبية أن تنجح في المدى البعيد، ويشكل حزب الله– وهو الجيش الثاني في لبنان– تهديداً لاستقلال البلد وسلامته وازدهاره، وهو يعطل المؤسسات الدستورية اللبنانية، والأكثر من ذلك، فقد بدأ باستخدام القوات المسلحة اللبنانية ضد المحتجين، ومن أجل تحقيق تقدم نحو حكومة نظيفة يتعين نزع سلاح حزب الله وجعل الجيش الوطني الجهة الوحيدة الحامية للسيادة.

ومثل هذا الوضع سيحرر الجيش من الترهيب الداخلي الذي يمنعه من حماية الناس، ومع شروع عناصر حزب الله بمهاجمة المحتجين السلميين في شتى أنحاء لبنان اكتفى الجيش بالمراقبة ولكنه اضطر الى التدخل في ما بعد من أجل احتواء موجة الاحتجاجات. ويظهر هذا الوضع مدى ضعف الجيش على الصعيد الداخلي كما تعرض لضعف في الخارج من خلال تدخل حزب الله العلني في المنطقة في صورة وكيل لايران.

أساليب الحصار

ومن المهم بالنسبة الى الشعب اللبناني الصمود في وجه أساليب الحصار التي يتبعها النظام السياسي، وهذا الشعب في حاجة الى اصلاحات تفرز حكومة فعالة ونزيهة إضافة الى منع حزب الله من محاولة تحويل الثورة اللبنانية الى حرب أهلية. وبالنسبة الى الكثير من المحتجين تحمل قائمة المطالب المتواضعة وعداً بتحقيق اصلاحات اقتصادية ذات معنى، وربما يبدأ المحتجون بالسعي الى تشكيل حكومة خاصة بهم.

وعلى أي حال، وإضافة إلى هذه الأهداف السامية يوجد مطلب واحد ينطوي على أهمية قصوى من أجل منع الخيار الثنائي بين بقاء النظام الحالي، وبين تدمير البلد، ويتمثل في أن لبنان دولة تتسع لجيش واحد فقط ويعتبر نزع سلاح حزب الله الذي يجعل منه «دولة داخل دولة» مسألة ضرورية وشرطا مسبقا يخرج لبنان من وضعية الرهينة مرة واحدة وإلى الأبد، كما يسمح له بقطف ثمار التحول الى دولة مستقلة حقاً.

back to top