حوار في نسيج المجتمع *

نشر في 16-12-2019
آخر تحديث 16-12-2019 | 00:09
 خولة مطر ليس بالجديد مثل هذا الحوار، تجمعوا حول مائدة العشاء، تنوع الحديث مثل تنوع الأطباق الشهية، بدأت الدردشات بكثير من الضحك والسخرية التي أصبحت جزءاً من التراث الحديث لمعظم المجتمعات العربية، أي السخرية من النفس سواء كان امرأة أو رجلا، أو سخرية من مجتمعهم ومن طائفتهم ومن كل شيء، بقيت الأجواء بين الهزل والجد والأطباق لا تفرغ، بل تضاف لها أطباق جديدة وتزدحم المائدة في تلك الغرفة المليئة بالدفء في ليلة باردة ومدينة كمعظم المدن العربية تبحث عن قطعة خشب عندما شح المازوت لتدفئة المنازل.

تحول النقاش إلى كرّ وفرّ، الجميع لا يستطيع تفادي المرور، ولو بشكل عابر، على الأصوات المرتفعة في ثنايا مدن الوطن الواسع، كلها تطالب بالحرية ومحاربة الفساد، ذاك المرض الذي خجل كثيرون عندما قرؤوا التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية والدول العربية في ذيل القائمة إن لم تكن في آخرها فيما يتعلق بدرجة الفساد العالية.

لا يمكن أن يجتمع عربيان اليوم دون أن يكون ثالثهما حديثاً عن الطائفية مبطناً بعبارات مستنكرة هذا المدّ، في حين الحديث مغمس بالألفاظ والعبارات المعادية أو المحتقرة لطائفة ما، الصديق المثقف نفسه والواعي واليساري والرافض للسلطات المتسلطة والحكم الدكتاتوري هو نفسه يختبئ أو يستتر خلف الألفاظ، وكأنه يبعد عنه تلك الشبهة، ثم ما يلبث أن يتعب من البحث عن كلمات لا تلتصق بجلده، وتكشف عن المستور وترفع عنه ذاك اللقب الذي يجب أن يعرف به وهو "المثقف"!

لا يمكن أن يختبئ المرء وراء قدراته المتنوعة في المراوغة وتمرير الألفاظ على مصفاة العقل في حين ينضح القلب بالكراهية والحقد، فهذا تكتيك قصير المدى في مثل هذه الجلسات المتنوعة، يفقد فجأة السيطرة، ويرمي مصفاة العقل من فوق تلك الأسوار، يستقيم في جلسته، وكأنه قد استنفرته المجادلة والرأي الآخر أو ربما الأسئلة المبطنة! نعم يقول هو "ياريت نرميهم كلهم في البحر أو في الهاوية"، ليس كلامه هو المثير إنما ردود الفعل من الآخرين المنهمكين في أطباقهم والذين يرفعون رؤوسهم ليضحكوا على ما قال، وكأنه يسترسل في إطلاق النكات.

يردد ألفاظاً تشبه تلك المتوافرة بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل من هم يقودون حملاتهم المنظمة، وآخرون يسعدون بسرعة الضغظ على زرّ الإرسال إلى مجموعة واسعة، وهكذا وما هي إلا لحظات لتتحول الكذبة إلى حقيقة، والتلفيق إلى نظرية علمية لا يمكن تحديها أو مواجهتها بأي حجة.

تقوم صاحبة المنزل لإحضار مزيدٍ من الطعام الشهي، تتنوع الأصناف وتبقى اللغة والخطاب واحدا، لا شيء ملون في هذه الغرفة إلا الطعام، وكل الآخرين إما شاطروه الرأي وإما لجؤوا إلى الصمت، ربما خوفا من تحول العشاء إلى كارثة اجتماعية جديدة تقسم المنقسم حتى تسببت في "خراب البيوت"!

من ملامسة الطائفية إلى حديث فج عن كراهية الآخر ونبذه، وتمني الموت له أولها، حوار كهذا كان حتى قبل سنوات بسيطة مستهجناً بل مرفوضاً ولا يُسمح به، ولكن التحول هو أنه أصبح المادة الخصبة للحديث حول الموائد العامرة والليالي الصاخبة، حتى بين هزة وأخرى ورقصة وقبلة.

لا يستغرب أحدهم كيف تتحول الزيارات والجلسات المحببة إلى مساحة أخرى لانتشار عدوى الطائفية حتى في دول عربية ليس بين مواطنيها أي أحد من هذه الطائفة أو تلك، ويردد الجميع أنهم لا يسيسون المسألة الطائفية ولا يستخدمونها لتقسيم الشعوب! حتى إننا لا نسمعهم إلا وهم يقولون "الطائفة الكريمة" وكأنها افتتاح لتبرئة النفس مما يتبع من حوار مقيت.

وفي حين يقال كيف سيرمم نسيج المجتمعات العربية التي مرت بحروب ونزاعات طويلة الأمد وجرحها لا يزال ينزف، وربما بحاجة لكثير من الوقت ليلتئم، لا يفكر أحدهم أن النسيج في دول ومجتمعات تبدو مستقرة ليس في حال أفضل، فقد تساوى العرب في وقوفهم عند آخر خيط في آخر جزء من نسيجهم.

أفرغت الأطباق والكؤوس من محتواها، بدأت السهرة في إسدال ستارها وعودة كل إلى مكان إقامته حاملا بعضاً أو كثيراً من المرارة التي لم ينفع في إزالتها لا شكولاته بلجيكية ولا بقلاوة عربية ولا بسبوسة مصرية.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية

back to top