ما بعد حلف «الناتو»

نشر في 09-12-2019
آخر تحديث 09-12-2019 | 00:00
مهما كانت نية الاتحاد الأوروبي السابقة فقد دفع ترامب أوروبا لإعادة اختراع وبناء نفسها، وللحفاظ على حلف الناتو يجب على الاتحاد التصرف كما لو أن الحلف قد انتهى بالفعل.
 بروجيكت سنديكيت على الرغم من تراجع شعبيته مرات عديدة، لا يزال حلف الناتو صامدا، لكن هناك ثعلب آخر قد دخل حظيرة الدجاج، وقد واجه ردة فعل أوروبية قوية على الخطر: ثرثرة غاضبة وريش متطاير.

إن الثعلب المقصود هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وصف حلف الناتو مؤخرًا بأنه في حالة "موت سريري"، ولا يحتاج المرء إلى تأييد اختيار الكلمات هذا- أو شغف ماكرون الجديد بالحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الذي كنت أرفضه شخصيًا)- ليدرك قوة حجته، ويتطلب التغيير العميق في الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب قيام الأوروبيين بإعادة النظر في الافتراضات القديمة حول دفاعهم الجماعي.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها حلف الناتو أيامه الأخيرة، إذ وصل الكثيرون إلى النتيجة نفسها قبل عام 2014، عندما لم يكن لدى الحلف الكثير من المهام بعد النهاية المُتوقعة لمهمته في أفغانستان، غير أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والحرب التي تلت ذلك في شرق أوكرانيا، قد بث حياة جديدة في حلف الناتو.

ثم تخلى ترامب عن القيادة الأميركية للنظام الدولي القائم على القواعد، واتبع سياسة خارجية قومية وحمائية أحادية الجانب، وذلك بعد قيام إدارته بسحب البساط من تحت أقدام أوروبا، وقد أعلن ترامب أن حلف شمال الأطلسي "على حافة الانهيار".

نتيجة لذلك، يتعين على أوروبا الدفاع عن نفسها لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، بعد سنوات طويلة من الاعتماد الاستراتيجي على الولايات المتحدة، فإن أوروبا غير مستعدة- ماديا ونفسيا- لمواجهة الوقائع الجيوسياسية القاسية الحالية، ويتجلى هذا بشكل واضح في ألمانيا.

أصبح مستقبل حلف الناتو غير مؤكد أكثر من أي وقت مضى، فمباشرة بعد عام 1989، ظن الكثيرون أن التحالف سيظل قائما بعد 20 عامًا، ولكن اليوم لا تصدر الأسئلة حول مستقبله من واشنطن العاصمة فقط، ولكن أيضًا من باريس، فلم يعد من الممكن اعتبار بقاء الناتو أمراً حتميا، ولا يمكن للأوروبيين انتظار مدة 20 عامًا لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك. في مواجهة التحول القومي الأميركي، وتأكيد الصين المتزايد، فضلا عن الثورة الرقمية الحالية، ليس أمام أوروبا خيار سوى أن تصبح قوة مستقلة، وفي هذا الصدد كان ماكرون مُحقا، لكن يجب ألا يكون لدى الأوروبيين أوهام بشأن ما سيتطلبه الدفاع الذاتي، وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُعتبر قوة اقتصادية أكثر من كونه قوة عسكرية، فإنه يواجه انفصالا عميقا عن الوضع الراهن.

لا شك أن حلف الناتو لا يزال موجودًا، ولا تزال القوات الأميركية منتشرة في أوروبا، ومع ذلك فإن المصطلح "لا يزال" كلمة أساسية، واليوم، بعد أن أصبحت المؤسسات التقليدية والالتزامات الأمنية عبر المحيط الأطلسي موضع شك، لم يعد السؤال هو ما إذا كان "التحالف" سينهار، ولكن "متى". متى يقرر ترامب أخيرًا أن الوقت قد حان لإلغاء الحلف بالكامل؟ فيما يتعلق بالأوروبيين سيكون من الحماقة أن نجلس وننتظر نشر تغريدة تويتر لإنهاء مصير الناتو.

يُدرك ماكرون هذا الأمر، في حين تؤيد ألمانيا التزاماتها القديمة بطريقة تقليدية، مع الوعد بزيادة إنفاقها الدفاعي ولكن دون تحديد هدف ملموس، ويُدرك ماكرون أن انهيار الدفاع الأوروبي بعد انسحاب القوات الأميركية سيكون أشد بكثير مما يتوقع الكثيرون، ولن يكون ذلك عبارة عن حركة انتقال تدريجية غير ملحوظة، بل سيكون انهيارا مفاجئا.

إذا أرادت أوروبا منع أو على الأقل تأخير هذه النتيجة، فسيتعين عليها الاستثمار بشكل كبير في جيشها وتطوير قدراتها الخاصة على نطاق واسع، بمعنى آخر يجب أن تتصرف كما لو أن الانهيار قد حدث بالفعل.

خلال معظم تاريخها الحديث كان على أوروبا أن تتعامل مع تحديين رئيسين: مركز مضطرب (ألمانيا) وجناح شرقي غير محمي (روسيا والصين الآن)، والذي كان دائمًا منفتحًة من الناحية الجيوسياسية، فمنذ تأسيس حلف الناتو عمل كحل لهاتين المشكلتين.

عندما ينظر المرء إلى شرق الناتو والاتحاد الأوروبي، يواجه مخاوف أمنية متزايدة بين الدول الأعضاء، وهذا ليس مفاجئًا، نظرًا إلى القرب الجغرافي لهذه البلدان من روسيا وتاريخها الطويل الذي تعرض للإمبريالية الروسية، وقد تجلى ذلك مؤخرًا في ضم روسيا المسلح لشبه جزيرة القرم والحرب في أوكرانيا الشرقية، وفيما يتعلق بهذه البلدان- بدءًا من بولندا ودول البلطيق- يُعد دمج أميركا في الدفاع الأوروبي من خلال الناتو أمرا ضروريا.

نظرا إلى المخاطر الجيوسياسية على الجانب الشرقي لأوروبا، يُوفر حلف الناتو شكلاً ضروريًا من أشكال الأمن، ويُعزز التضامن والوحدة داخل الاتحاد الأوروبي من خلال مطالبة كل عضو بالمساهمة بنصيبه العادل في المصلحة العامة، وإن سياسة ترامب القومي تحت شعار "أميركا أولاً" قد أجبرت أوروبا فجأة على مواجهة مسألة سيادتها، مما يعني أن تصبح قوة تكنولوجية مستقلة مع القدرة على التصرف بحزم كجبهة مُوحدة. لم يكن الاتحاد الأوروبي ليقوم بذلك بمحض إرادته، ومهما كانت نيته، فقد دفع ترامب أوروبا لإعادة اختراع وبناء نفسها، وللحفاظ على حلف الناتو، يجب على الاتحاد الأوروبي التصرف كما لو أن الحلف قد انتهى بالفعل.

* يوشكا فيشر

* وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار في الفترة من 1998 إلى 2005، وزعيم حزب الخضر الألماني لمدة تقارب العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

سياسة ترامب القومي تحت شعار "أميركا أولاً" أجبرت أوروبا فجأة على مواجهة مسألة سيادتها
back to top