إدريس الصغير: أكتشفُ مجاهل مُعتمة في الجنس الإبداعي

الرواية تتسع للتفاصيل وصعوبة القصة تتجلى في التكثيف

نشر في 04-12-2019
آخر تحديث 04-12-2019 | 00:00
يعتبر الأديب المغربي إدريس الصغير (71 عاماً)، أحد ألمع كتاب القصة والرواية في العالم العربي، وترجم العديد من أعماله إلى لغات عِدة، ومن أبرز نتاجه الروائي: «الزمن المقيت»، و«كونشيرتو النهر العظيم»، و«خريطة القبور»، و«ميناء الحظ الأخير»، وفي القصة القصيرة صدرت له مجموعات منها، «ورغم ذلك حلق العصفور في السماء»، «إشاعات في مهب الريح»، و«حوار جيلين» والأخيرة مجموعة وقصص مشتركة مع محمد سعيد الريحاني، وأبدع في الكتابة المسرحية، كما في «أحلام الفراشات الجميلة».
وفي حوار أجرته معه «الجريدة»، من القاهرة، قال الصغير إن كتابته تكتشف مجاهل مُعتّمة في الجنس الإبداعي، لافتا إلى أن الرواية تتسع للتفاصيل، في حين أن صعوبة النص القصصي تتجلى في ضرورة التكثيف... وفيما يلي نص الحوار:
• ثمة إنتاج إبداعي ضخم في المغرب، كأديب كبير كنت رئيساً لفرع اتحاد الكتاب في مدينتك (القنيطرة)، كيف ترى هذه الظاهرة وماذا تعكس؟

- خلال العشرين سنة الأخيرة حصل تراكم إبداعي غير مسبوق في جلّ الأجناس الإبداعية، بسبب سهولة النشر وانتشار وسائل ووسائط التواصل، كذلك تضاعفت الأنشطة الإشعاعية كالندوات والقراءات الشعرية والقصصية، وبرزت في الساحة الثقافية ظاهرة التكريمات، حيث يُكرم من يستحق ومن لا يستحق، إضافة إلى المسابقات والجوائز التي تشجع على المغامرة بالتأليف تحت الطلب في أجناس إبداعية قد لا يكون المترشح على إلمام بقواعدها أو يمتلك الموهبة للإبداع فيها، لكن مع ذلك لا تخلو هذه المطبوعات التي غزت سوق الكتاب الورقي، وكذلك الإلكتروني، من جودة، وإن كانت قليلة مقارنة بالركام الهائل من الأعمال المسفة المفتقدة للحد الأدني من شروط الإبداع الجيد.

الفن الجميل

• يتنوع إبداعك بين القصة والرواية والمسرحية... على أيّ أساس تحدد القالب الأدبي الذي تقدم من خلاله نصك؟

- في حقيقة الأمر، أنا قصاص بالدرجة الأولى، عشقت هذا الفن الجميل الرائع، منذ أن ابتليت بقراءته، منذ الصِبا، وأدمنت عليه حتى الآن، لكنني وأنا تلميذ بالثانوي، كتبت قصة قصيرة بعنوان "خيانة"، نشرتها لي جريدة "العلم"، وكانت فرحتي كبيرة، ثم بعد ذلك تجرأت فأرسلت قصة تحت عنوان "موت بلواس" لمجلة الآداب البيروتية، وحين رأيت اسمي بين أسماء كبار الكتاب في العالم العربي، سأكون قد تورطتُ لألتزم وأخلص لهذه المعشوقة الفاتنة (القصة القصيرة) التي منحتني مكانة لائقة بين إخوتي من الكتاب في منابر أدبية رصينة في كل من مصر والعراق ولبنان، وحتى في المنابر الصادرة في المهجر، غير أنني سأكتب روايتي الأولى عام 1983، لتصدر عن المؤسسة العربية للدراسة والنشر، نجاحها جعلني أزاوج بين كتابة القصة والرواية، إلى أن اتجهت للمسرح، فطبعت مسرحية "أحلام الفراشات الجميلة"، التي تم عرضها في عدة مؤسسات تربوية في إطار المسرح المدرسي، وكذلك أنتجتها فرقة مسرحية محترفة بمدينة القنيطرة من إخراج الراحل مصطفى بويغرومني، لكنني على العموم في ما أكتبه وأنشره أنطلق من مُسلَّمة أحملها شعاراً في مسيرتي الأدبية، تتلخص في: "استيعاب تجارب السابقين شرقاً وغرباً"، مع البصمة الخاصة التي تدفع بالتجديد واكتشاف مجاهل معتمة في الجنس الإبداعي، ربما لم يتطرق إليها أحد، أو لم تنل من الاهتمام القدر الكافي... الرهان الذي أركبه هو رهان فني بالدرجة الأولى.

سهلة النشر

• في مقارنة بينهما قلت من قبل "إن القصة القصيرة هي الأصعب على الإطلاق"، فلماذا برأيك تبدو الرواية أكثر رواجاً وانتشاراً على المستوى العربي؟

- الصعوبة نفسها هي السبب، لكن القصة القصيرة إذا كانت صعبة التأليف، فإنها سهلة النشر، إذ تحتضنها الصحف السيارة، والمجلات، عكس الرواية التي تتطلب أن يحتضنها كتاب، فصعوبة النص القصصي تتجلي في ضرورة التكثيف، إذاً الكاتب مطالب بالتعبير عما يجيش بداخله شكلاً ومضمومنا في تركيز كبير وحيّز صغير، لا مجال فيه للثرثرة أو التداعيات الزائدة، القصة القصيرة فسيفساء، لا تحتمل سوى حياتها بألوانها وأشكالها الهندسية، وكل زيادة أو نقصان تفقد الفسيفساء جمالها ورونقها، في حين قد يتسع المجال في الرواية إلى الإطناب في التفاصيل، بل وتفاصيل التفاصيل، لكن القطرة التي أفاضت الكأس في ذيوع الرواية، أو على الأصح، الإقبال على كتابتها وطبعها ونشرها هي قولة صرّح بها كاتب عربي أظنه حنة مينة، مفادها: "الرواية ديوان العرب في العصر الحديث"، إضافة إلى الجوائز التي تخصص للمسابقات في كتابة الرواية.

التحقيب الزمني

• بداية من مجموعتك "اللعنة والكلمات الزرقاء" 1976 ، وصولاً إلى رواية "ليلة العشاء الأخير" 2013 وما تلاها كيف تصف محطات إبداعك؟

- أنا كاتب من جيل السبعينيات، والتسمية هنا لا علاقة لها بالتحقيب الزمني، هي تسمية تعني رهاناً أيديولوجياً وفنياً ركبناه لجيل اكتوى بنار هزيمة 1967 النكراء، التي سماها المسؤولون عندنا "النكسة" تخفيفاً لهول ما وقع.

لقد ضقنا بالشكل التقليدي لكتابة القصة (مقدمة، عرض، خاتمة، العقدة، حل العقدة، نهاية سعيدة، أو نهاية مأساوية... إلخ).

في الشكل التقليدي يكون الكاتب والقارئ متفرجين على الحدث بحيادية تامة، حاولنا أن نجعل كلا من الكاتب والقارئ يعيشان في أتون الحدث، يكتويان معاً بناره ويصطليان بلهيبه، والآن ومع مرور الزمن، أصبحت أفضّل الاشتغال على تيمات أعمق، بعيداً عن الأيديولوجيا، وبعيداً عن الأشكال النمطية للكتابة التي تسجنني أكثر من أن تحررني ، وأراهن على أن أعبِّر عما يجيش بداخلي بفنية كبيرة، بأعلى درجات الفنية إن أمكن.

أسرار الإبداع

•أنت كاتب يؤمن بأهمية التجريب... فهل التجريب يرتكز على اللغة أم تقنية الكتابة أم إحساس الكاتب وقدرته على توصيل ما يشعر به بأي وسيلة؟

- يرتكز التجريب على كل الأقانيم التي ذكرتها، والطريقة التي وضعت بها السؤال تدل على ذوقك الفني الراقي، ودرايتك الكبرى بأسرار الإبداع الفني وَهَمِّ الكتابة، فاللغة عنصر أساسي في عملية الكتابة، لهذا، فالتمكن منها ضرورة لا خيار للكاتب إلا امتلاكها، خصوصاً اللغة العربية ذات الاشتقاقات والمترادفات التي تبني بها بلاغة يقلّ نظيرها، ويُضاف إلى ذلك تقنية الكتابة لتوظيف هذه اللغة حتى يُبَلَّغ المعنى والمضمون بمتعة، إذ المقصود بعد المضمون هو الإمتاع، وكل الناس يمتلكون قصصاً غريبة وتجارب نادرة وخوارق عجيبة، لكنهم لا يستطيعون إبلاغها بشكل فني، وحدهم الكتاب يستطيعون ذلك، لأنهم يملكون الاستعداد الفطري لذلك، هذا الاستعداد الذي نَمَّوْهُ بالمطالعة واستيعاب أهم تجارب الكتابة العالمية والصدق الفني، ومطاوعة اللغة، لخلق تحف فنية ذات جودة عالية.

متعة النص

• كيف ترى حال النقد الأدبي في ظل اتهامات متكررة بتراجع مستواه ودخوله في دائرة المجاملات والسطحية؟

- النقد كشفٌ عن متعة النص، ومن حق كل ناقد أن يستخدم المنهج الذي يفضل، وأن يطبقه على النص الذي يشاء، فإن لم يكشف لنا عن متعة النص بمهارة أكاديمية تتعدى الانطباعات السريعة المسطحة، فلا فائدة من ذلك، لأنه في هذه الحالة قد يفسد علينا متعة انتشينا بها أثناء القراءة، فالسائد عندنا هو النقد المجامل الذي ينحاز إلى الحزبية الضيقة والعشائرية والشللية، وهو نقد لا يمتلك أية أدوات علمية، بل يدور في حلقة صغيرة مفردة فيها من اللغو أكثر حتى من الانطباعات التي تقترب من الموضوعية، ناهيك بالنقاد الذين يبدو جلياً من كتاباتهم أنهم لا يستوعبون المنهج النقدي الذين يشتغلون به على النصوص، لهذا في ساحتنا الثقافية يبدو النص الأدبي أقوى من الدراسات النقدية – أتحدث عن النص الجيد – إذ لا ترقى تلك الدراسات إلى مستوى جودته.

فيلم سينمائي

• ما المشروع الأدبي الذي تعكف عليه الآن وربما يخرج للنور قريباً؟

- سحرتني السيمفونية الثالثة ليوهانِس برامس، وكذلك رواية الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان المعنونة بـ "هل تحبون برامس"، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح، وأخوض الآن تجربة في الكتابة هي في المراحل الأخيرة من التشكّل، استلهاماً من الموسيقى والسينما، كفنين جماهيريين مؤثرين في مجتمعنا المتخلف، بشكل أكبر من الكتابة الأدبية التي يقل قراؤها يوماً بعد يوم.

back to top