الدبلوماسية الفنية والثقافية

نشر في 05-11-2019
آخر تحديث 05-11-2019 | 00:00
 حمود الشايجي (1)

كنت أسير في شوارع بلغراد عندما كنت أعمل دبلوماسياً في سفارة الكويت لدى صربيا، وخلال سيري بدأت أكتشف حملة إعلانية كبيرة ممتدة تقريباً في أغلب الشوارع الرئيسة بالمدينة، وهذا الإعلان لم يكن لمنتج تجاري عادي، بل كان منتجا مدروس الأبعاد والتأثير أكثر من غيره، المنتج كان مسلسل "حريم السلطان". وهو مسلسل تلفزيوني تركي تاريخي من أربعة مواسم.

يقدم المسلسل صورة متخيلة عن حياة السلطان العثماني سليمان القانوني. ومن خلال الاسم (حريم السلطان) استطاع القائمون على المسلسل أن يشدوا المشاهد بأنه سيدخل في الحياة الخاصة للسلطان سليمان، وهذا ما شدَّ الجمهور الصربي المُعادي لهذا السلطان، الذي غزا بلغراد نفسها، واستمر حكمه لها، ومن بعده سلاطين دولته العثمانية قرابة 500 سنة.

لم يستطع هذا المسلسل أن يشد الجمهور الصربي العادي، بل استطاع أن يكون بوابة مهمة سهَّلت على الحكومة الصربية فتح مجالات متعددة لكثير من الشركات التركية، سامحة بدخولها إلى الساحة الاقتصادية الصربية، فصارت علاقة البلدين أكبر، وهذا ما تمت ملاحظته بازدياد المشاريع الضخمة التي قامت بها تركيا في صربيا.

(2)

ليست جديدة فكرة الدبلوماسية الثقافية والفنية، وليست بدعة، فالدور الكبير التي قامت به مصر في الساحة العربية بشكل عام، والكويت في الساحة الخليجية بشكل خاص، على سبيل المثل خلال مراحل سابقة في تاريخ الدولتين، ما هو إلا تجسيد لاستغلال هذا النوع الأصيل من الدبلوماسية، فالإنتاج الفني لهذين البلدين، مع اختلاف نوعه وكميته، إلا أنه كان رافداً أساسياً لقوتهما الإقليمية، وهذا ما نجده يتراجع نوعاً ما مع اهتمام الدول بالدبلوماسية السياسية والاقتصادية على حساب الدبلوماسية الثقافية والفنية.

مع العلم أن أثر الدبلوماسية الثقافية والفنية أكثر عمقاً من أثر الدبلوماسية السياسية والاقتصادية، ومن أبسط الأدلة على هذا الأثر، مَن منا لا يذكر مسلسل "درب الزلق" وأسماء أبطاله وكاتبه، أو مَن منا لا يذكر مسلسل "ليالي الحلمية" ومَن هم أبطاله بأجزائه المتعددة، ومن كاتب هذا المسلسل، وحتى مَن أخرجه، لكن في الوقت نفسه مَن منا يذكر مَن كان يعمل في السلك الدبلوماسي الكويتي أو المصري في بلده عندما كانت هذه المسلسلات تعرض على الشاشات الخليجية والعربية.

(3)

الأعمال الثقافية والفنية هي أكبر سفير ممكن أن يُروِّج للدول ويسوِّق لأفكارها، وإهمال هذا الدور خسارة كبيرة لأي دولة، فالثقافة والفن يحملان في داخلهما بُعداً إنسانياً أكبر مما تحمله المصالح السياسية والاقتصادية، فمن خلال الثقافة والفن يتم بناء الجسور بين الشعوب، حتى لو كانت مدمرة، وهذه الجسور كفيلة بتسهيل أي مهمة أخرى، إن كانت سياسية أو غيرها.

(4)

لذلك أعتقد أن علينا اليوم الاهتمام بشكل منهجي بالإنتاج الثقافي والفني، وكيفية عرضه والترويج له، ليس من نظرة ترفيهية وحسب، بل لكونه صورة مهمة عن هوية الدولة وقوتها الناعمة.

back to top