المثقف وناس الثورات

نشر في 23-10-2019
آخر تحديث 23-10-2019 | 00:05
 طالب الرفاعي على صدر جريدة الـ "إندبندنت" العربية، نشر الصديق الصحافي والشاعر عبده وازن مقالاً بعنوان: "المثقفون اللبنانيون غابوا عن تظاهرات الشوارع... لكنهم رحبوا بالحدث عبر شبكات التواصل الاجتماعي... الثورة الشعبية صدمت السياسيين وحقّقت وعياً جديداً وقضت على مفهوم القطيع". وواضح للجميع أن هذا العنوان بقدر ما يخصّ الحالة اللبنانية؛ ينطبق على عموم أقطار الوطن العربي.

لقد كان مفكرو وكتّاب وفنانو معظم أقطار الوطن العربي نتاج الأحزاب السياسية،منذ بدايات القرن العشرين، الأحزاب السياسية، التي كانت تشكّل الواجهة الأهم للوقوف في وجه المستعمر أولاً، وتالياً في وجه السلطات العسكرية الدكتاتورية الظالمة. ولذا كان من أبجديات الكتابة بالنسبة لأي كاتب شاب، خاصة ذاك المنضوي تحت القومية أو لواء اليسار العربي، قراءة كتب على شاكلة "ضرورة الفن" للكاتب آرنست فيشر، أو الاستماع مراراً وتكراراً لمحاضرات خاصة وعامة تشير إلى قدسية مهنة الكتابة، وأن الشاعر والقاص والروائي والمسرحي والتشكيلي والسينمائي هم رأس حربة لفكر أحزابهم، وبالتالي هم أمام مهمة اجتماعية عظيمة لتغيير الرأي العام الشعبي، وإيصال فكر مختلف يجعل الناس تثور على واقعها وتحطم أصنام السائد والمستكين والبائس، وترمي بعباءة السواد، لتخرج إلى عباءة اللحظة الإنسانية المكللة بالديمقراطية والحرية والفكر المستنير.

لكن واقع الحال أفرز واقعاً مريراً وبائساً لم يكن لمصلحة المفكر والمبدع العربي؛ واقعاً جعل المفكر والكاتب العربي يعيش في وادٍ وعالم ورؤى، وجعل جموع الشعوب العربية تعيش وجع ومعاناة وموات يومها في وادٍ آخر لا علاقة له بالكاتب ولا بما يكتب. وهذا ما جعل المفكر والكاتب العربي يعيش غربة كبيرة عن قاعدته الشعبية، الأمر الذي أثر ويؤثر على طبيعة العلاقة بين المثقف وقواعده من القراء والمتلقين.

ليس عبثاً أن المواطن العربي يتعلق بأي مطرب أو ممثل شاب أو شابة، أياً كان مستوى وعيه وتفكيره، بينما هو لا يعلم عن أهم كتّاب بلده. وأنا هنا أتكلم عن حالة عامة، مؤكَّدٌ أن هناك فئة قليلة من الشعوب العربية على وصل واتصال بالفكر والكتاب والكاتب، لكن الحالة العامة تقول بأن سير أي عالم عربي أو كاتب في أي مكان عام لا يُقارن بما يلاقيه أي فنان يواجه الجمهور في أي مكان. صحيح أن الفنان يقدم مادة ترفيهية، وصحيح أيضاً أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في ذلك. لكن الصحيح أيضا أنه قد حان الوقت لكي يقف المفكر والمبدع العربي أمام نفسه ليسأل السؤال الكبير: لماذا أنا في بعد عن الناس؟ ولماذا الناس في بعد عني؟

ما جرى مؤخراً في العراق، وتالياً في لبنان، وقبل ذلك في الجزائر وتونس والأردن واليمن، كل هذه المآسي ولم نسمع صوتاً أو بياناً لمبدع عربي، كبيراً أو صغيراً! كل هذا ولم نسمع رأياً موضوعياً يحلل ما يجري ويسنده إلى أسبابه الموضوعية ويرى المستقبل! كل هذا -كما قال الزميل عبده وازن- والمبدع والمفكر والفنان العربي لاهٍ بنفسه ونتاجاته وعالمه، وربما كتب جملة عابرة على "تويتر" أو "فيس بوك" أو أنزل صورة له على "الانستغرام" وهو بقرب موقع حدث ملتهب! نعم، المفكر والمبدع والمثقف العربي غائب فرداً، وغائب جماعة عن الحدث الشعبي، عن الثورة الشعبية، عن الموات اليومي الذي يمر به المواطن. ونعم، يعاقب المواطن هذا الإنسان المفكر والمبدع والفنان، بأن يتخلى عنه ويتركه لشأنه. فمن تركني لشأني ملت عنه وتركته لشأنه.

أعرف أن مقالي هذا قد يستثير الكثير من الزملاء للدفاع عن أنفسهم، وعن مواقفهم، وهناك من سيدلل على أنه نشر مقالاً أو تغريدة تدين ما يحصل. لكن، هذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فالقاعدة كلنا سكوت، ولا أستثني أحداً، وكلنا -كتّابَ رواية وقصة وشعر ومسرح وتشكيليين ومسرحيين- لاهون بكتاباتنا الشخصية، ونهرول راكضين إلى أول دعوة تصل إلينا من أي معرض كتاب أو تظاهرة أو تجمع، لكي نحضر هناك ونقدم أوراقنا بأفكارنا العظيمة... بينما الآخر؛ جموع الآخر، الشعوب العربية تعيش عالمها اليومي المختلف، عالمها المعجون بالثورة وبالدم والموت.

المفكر والمبدع غريب عن ألم شعبه، إلا فيما ندر، ولذا يعاقبه أبناء شعبه بتجاهله ونكران حضوره!

back to top