المقاطع: رأي «القضاء» بـ «الأحزاب» مخالف للدستور والنظام الديمقراطي

• الدستور لم يحظرها وترك أمر تقديرها للمشرع العادي... والرأي يؤثر بأهلية أعضاء «الدستورية»
• رأي مجلس القضاء تجاوز الحدود الدستورية وانتهك مبدأ الفصل بين السلطات

نشر في 20-10-2019
آخر تحديث 20-10-2019 | 00:04
الخبيــر الدستوري أستاذ القانون العام د. محمد المقاطع
الخبيــر الدستوري أستاذ القانون العام د. محمد المقاطع
أكد الخبيــر الدستوري أستاذ القانون العام د. محمد المقاطع أن رأي مجلس القضاء الأعلى بشأن إنشاء الأحزاب مخالف للدستور وللنظام الديمقراطي وخصوصا البرلماني.
وقال د. المقاطع، في دراسة خص بها «الجريدة»، إن المذكرة التفسيرية لنص المادة 43 من الدستور لم تحظر إنشاء الأحزاب، وإنما تركت أمر تقديرها للمشرع العادي، كما أن رأي المجلس، الذي بعضويته ثلاثة من أعضاء المحكمة الدستورية، يؤثر على أهلية الأعضاء، وفيما يلي نص الدراسة:
أبدى مجلس القضاء الأعلى رأيه بشأن اقتراح بقانون «تنظيم الهيئات السياسية»، منتهيا إلى أن «إنشاء الأحزاب السياسية في الكويت لا سند له في الدستور، ومحظور»، مضيفا أن «الأحزاب السياسية تمثل تهديدا على البلاد وخطرا على الحكم الديمقراطي».

ولما كان رأي مجلس القضاء الأعلى فيما انتهى إليه جاء مرسلا خلوا من الأساس والسند ومعيبا ومنتقدا لمجافاته للصواب ومقوضا لأحكام الدستور والنظام الديمقراطي وخصوصا البرلماني، فإنه لابد من إخضاعه للدراسة والتعليق العلمي، لبيان ما شابه من عيوب من حيث الشكل والموضوع. علما أن موضوع مشروعية الأحزاب السياسية سبق لي بحثه في دراسة علمية متكاملة بعنوان «الاحزاب السياسية في الكويت بين المشروعية القانونية والضرورات البرلمانية»، منشورة في مجلة حقوق القاهرة - عام 1997، وهو ما اقتضى التنويه قبل المضي في هذه الدراسة.

أولا: المآخذ الشكلية على رأي المجلس

بادئ ذي بدء لابد من تأكيد أن الرأي المنسوب لمجلس القضاء الأعلى، وحسبما تقصينا عنه، لم يتخذ باجتماع لمجلس القضاء الأعلى، ولا تنطوي عليه أي من محاضره، وهي ملاحظة جديرة بالتقرير حينما تتم مناقشة رأي صادر عن المجلس.

1- أما على صعيد الشكل فإن المجلس الأعلى منبت الصلة بشأن هذا الموضوع، ذلك أن قانون تنظيم القضاء رقم 23 لسنة 1990 قصر اختصاص المجلس الأعلى للقضاء في شأن الموضوعات، بما في ذلك مقترحات القوانين المتعلقة بمرفق القضاء فقط، وما عدا ذلك من الموضوعات واقتراحات القوانين تخرج بصفة مطلقة عن مجال نظره أو مكنة ابدائه رأيا بشأنها، وذلك وفقا للمادة 1٧ من القانون المذكور.

2- ولا يشفع للمجلس التحجج بأن اقتراح القانون الخاص بتنظيم الهيئات السياسية أحيل إليه من وزير العدل لإبداء رأيه، ذلك أن تنكب وزير العدل للإجراء السليم قانونا، لا يمنح المجلس اختصاصا ولا يكسبه صفة بشأن الموضوع، وكل ما كان يملكه هو الإفادة بعدم اختصاصه.

3- واللافت للنظر أن المجلس لم يكتف بأنه نظر وأبدى رأيه فيما لا اختصاص له فيه، بل تجاوز الحدود الدستورية للاختصاص، وانتهك مبدأ الفصل بين السلطات، حينما سمح لنفسه أن يتناول الملاءمات السياسية والموضوعية لموضوع الأحزاب، مما هو مجال مقرر ومقصور على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن ثم فإن رأيه جاء متناقضا والمسلمات والنصوص الحاكمة لاختصاص المجلس الأعلى للقضاء بل والنصوص الدستورية المتعلقة بفصل السلطات.

4- ولا يفوتنا التنويه إلى أن انحراف السلطة التنفيذية عندما أحالت الاقتراح بقانون المذكور للمجلس الأعلى للقضاء، هي محاولة لزج القضاء في أعمال لا تمت له بصلة، في حين أنها تدخل في صميم اختصاص السلطة التنفيذية، وهو لا شك تصرف تآخذ عليه السلطة التنفيذية.

5- وَمِمَّا يعاب شكليا أيضا هو أن يبدي المجلس رأيه في هذا الموضوع، ومن بين أعضائه ثلاثة من أعضاء المحكمة الدستورية، وهو ما يؤدي للمصادرة على المطلوب، ويصيب المحكمة الدستورية بعوار عدم الأهلية بنظر أي نزاع يتعلق بهذا الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر، بل ربما يلحق كل درجات التقاضي التي تصاب بهذا العوار، بسبب طبيعة تكوين المجلس وأعضائه.

ثانياً: المآخذ الموضوعية على رأي المجلس.

أ- ذكر المجلس الأعلى للقضاء أن «إنشاء الأحزاب السياسية في الكويت لا سند له في الدستور وأنه يحظرها».

1- والحقيقة هي أن رأي المجلس هو المفتقد الأساس والسند، ويشوبه التسطيح والإرسال الخالي من الدليل، إذ إن الدستور الكويتي في نص المادة 43 ولفظها، قصد الأحزاب السياسية بعينها، وهو ما أوضحته صراحة المذكرة التفسيرية للدستور، وهي التي لها قيمة دستورية تماثل الدستور ذاته، حيث جاء فيها «تقرر هذه المادة (حرية تكوين الجمعيات والنقابات) دون النص على «الهيئات»، التي تشمل في مدلولها العام بصفة خاصة الأحزاب السياسية، حتى لا يتضمن النص الدستوري الإلزام بإباحة إنشاء هذه الأحزاب، كما أن عدم إيراد هذا الإلزام في صلب المادة ليس معناه تقرير حظر دستوري يقيد المستقبل لأجل غير مسمى، ويمنع المشرع من السماح بتكوين أحزاب إذا رأى محلا لذلك، وعليه فالنص الدستوري المذكور لا يلزم بحرية الأحزاب ولا يحظرها، إنما يفوض الأمر للمشرع العادي دون أن يأمره في هذا الشأن أو ينهاه».

إذا من مطالعة المادة 43 من الدستور، وتعليق المذكرة التفسيرية عليها، نجد، خلافا لرأي المجلس المرسل، سندا مباشرا للأحزاب السياسية بالمادة 43 وتفسيرها الملزم.

2- إن نص المادة 45 من الدستور، التي جاءت بعد المادة 43 منه بمادتين، تعتبر سندا مباشرا على إباحة الدستور الكويتي للأحزاب السياسية وتحوطه لنشأتها مستقبلا، فتعامل معها، فقد نصت هذه المادة صراحة على أن «لكل فرد أن يخاطب السلطات العامة كتابة وبتوقيعه، ولا تكون مخاطبة السلطات باسم الجماعات إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنوية».

وهنا لفظ الهيئات النظامية يشمل ضمن معناه الأحزاب السياسية، كما أوضحت المذكرة التفسيرية في تفسيرها للمادة 43، والتي أشرنا إليها بالفقرة السابقة، وهو هنا يعني بكل تأكيد ويقين مشروعية إنشاء الأحزاب السياسية، وفقاً لهذه المادة من الدستور الكويتي.

3- إن بناء الدستور في معظم نصوصه المرتبطة بعمل مجلس الأمة يبرهن أن العمل التكتلي يشجع عليه الدستور، أي العمل الحزبي، وهو ما تجسده، على سبيل المثال، المواد 92، 94، 101، 112 وغيرها الكثير، فضلا عن تبني اللائحة الداخلية في العديد من المواد للتوجه ذاته.

4- اعتناق المذكرة التفسيرية لإنشاء الأحزاب السياسية لكونها رديف النظام البرلماني، خلافا للاجتزاء الذي اقتبسه مجلس القضاء على طريقة، «ولا تقربوا الصلاة...»، للقفز على حقيقة دعم وتبني المذكرة التفسيرية للأحزاب السياسية، وهو ما تؤكده العبارات التالية»، فهذه المسؤولية هي التي يخشى أن تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب، بل تجعل من هذا الهدف سببا رئيسيا للانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس أخطر على سلامة الحكم الديمقراطي أن يكون هذا الانحراف أساساً لبناء الأحزاب السياسية في الدولة بدلا من البرامج والمبادئ، وأن يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل، وإذا آل أمر الحكم الديمقراطي إلى مثل ذلك، ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وحرف العمل السياسي عن موضعه، ليصبح تجارة باسم الوطنية، ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية الخفية، كما تتشقق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه، مما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدته. وهذا يدعم تكوين الأحزاب على أساس المبادئ والبرامج، لكونها من أساسيات بناء النظام البرلماني، كما تستدرك المذكرة التفسيرية ذلك، بل وما تبينه كل عباراتها التي نوردها في الجزء اللاحق من هذه الدراسة، وهذا يأتي خلافا للاجتزاء الذي أوردته مذكرة مجلس القضاء الأعلى.

ب- أورد المجلس الأعلى للقضاء «أن الأحزاب السياسية تمثل تهديدا على البلاد، وخطرا على الحكم الديمقراطي».

وهو رأي شاذ اعتمد على اجتزاء من المذكرة التفسيرية، وبالمخالفة لصريح ما قررته المذكرة التفسيرية من جهة، بل وخلافا للمستقر في كل الأنظمة الديمقراطية التي جعلت الأحزاب السياسية حجر الزاوية في بنائها واستقرارها بل وتطورها من جهة أخرى.

فمجلس القضاء أغفل كافة النصوص الدستورية التي قررت مشروعية الأحزاب السياسية، ومثالها (43، 45، 56)، بل أغفل أيضا ما سطرته المذكرة التفسيرية التي أبرزت أهمية الأحزاب السياسية، وضرورتها للنظام الديمقراطي، ومن ذلك قولها «فالصالح العام هو رائد الوزير في الحكم، وهو كذلك رائد المجلس في الرقابة، فوحدة هذا الهدف كفيلة بضمان وحدة الاتجاه وتلاقي المجلس والحكومة، في تقدير مصلحة المجموع، على كلمة سواء».

وقولها أيضا بمراعاة ما تتجه إليه الأغلبية البرلمانية بقولها «تاركا الأمر لتقدير رئيس الدولة في ظل التقاليد البرلمانية التي توجب أن يكون الوزراء قدر المستطاع من أعضاء مجلس الأمة». كما أوضحت ذلك في تكوين المجلس الذي لا بد من احترام أغلبيته وطريقة تكوّنها، فقررت «وبهذا التحديد لا يكون هناك خوف من إغراق مجلس الأمة (وعدد أعضائه أصلا خمسون عضوا) بأعضاء غير محددي العدد من الوزراء المعينين من خارج المجلس، مما يخشى معه المساس بشعبية المجلس النيابي أو بأهمية قرارته».

دعم إيجابي

إن الثناء على دور الأغلبية التي تسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء تبرهن على الدعم الإيجابي للعمل التكتلي والحزبي معا في عبارتها «كما أن تجريح الوزير، أو رئيس مجلس الوزراء بمناسبة بحث موضوع عدم الثقة أو عدم التعاون، كفيل بإحراجه والدفع به إلى الاستقالة، إذا ما استند هذا التجريح إلى حقائق دامغة وأسباب قوية تتردد أصداؤها في الرأي العام. كما أن هذه الأصداء ستكون تحت نظر رئيس الدولة باعتباره الحكم النهائي في كل ما يثار حول الوزير أو رئيس مجلس الوزراء».

واستطردت المذكرة التفسيرية، في بيان، أهمية الرأي العام المنظم في دعم واستقرار الحكم الديمقراطي بقولها «ومن وراء التنظيم الدستوري لمسؤولية الوزراء السياسية،توجد كذلك وبصفة خاصة رقابة الرأي العام التي لا شك في أن الحكم الديمقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها، ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم.

وهذه المقومات والضمانات في مجموعها هي التي تفيء على المواطنين بحبوحة من الحرية السياسية، فتكفل لهم.... «.

وتختتم المذكرة التفسيرية بيانها بأهمية الأحزاب ومراعاة الأغلبية التي يتسم فيها المجلس بقولها «إضافة إلى ما يرجى مع الزمن مع تناقص عدد الوزراء الذين يعينون من غير أعضاء مجلس الأمة، ومن التجاوب واقعيا - كما سبق - مع اتجاهات المجلس المذكور وعدم الرغبة في مخالفة نظره، ولو كانت لهذه المخالفة وسيلة شكلية في الدستور».

مفهوم عكسي

ولعل في التفسير الخاص للمادة 56 من الدستور ما يبرهن بمفرده على تبني الدستور للأحزاب بقولها «أشارت هذه المادة إلى المشاورات التقليدية التي تسبق تعيين رئيس مجلس الوزراء، وهي المشاورات التي يستطلع بموجبها رئيس الدولة وجهة نظر الشخصيات السياسية صاحبة الرأي في البلاد، وفي مقدمتها، رئيس مجلس الأمة، ورؤساء الجماعات السياسية، ورؤساء الوزارات السابقين الذين يرى رئيس الدولة من المفيد أن يستطلع رأيهم، ومن إليهم من أصحاب الرأي السياسي».

فالجماعات السياسية هنا هي الأحزاب السياسية، خلافا لما عمدت مذكرة المجلس الأعلى للقضاء لمجافاته واجتزاء خلافه، وقلب مفهومه المباشر لمفهوم عكسي.

خاتمة

وفِي نهاية المطاف، وختاما لهذه الدراسة السريعة المختصرة، يتبين كيف أن رأي المجلس الأعلى للقضاء قد جاء مرسلا خلوا من الأساس والسند، ومعيبا ومنتقدا لمجافاته للصواب، وبل وربما مقوضا لأحكام الدستور والنظام الديمقراطي، وهو قبل ذلك وبعده، أقحم القضاء في موضوع لا اختصاص له فيه أصلا، بل أنه أصاب المجلس بعوار «عدم الأهلية» لنظر أي قضية تعرض على أعضائه في أي من درجات التقاضي مستقبلا تتعلق بهذا الموضوع بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وعلى وجه الخصوص المحكمة الدستورية لأن ثلاثة من أعضائها هم أعضاء بمجلس القضاء الأعلى، وهو ما يستوجب ردهم أو تنحّيهم حينما يعرض هذا الموضوع عليهم.

وهنا لا بد من التذكير بما لا بد من التذكير به، وهو ضرورة فصل رئاسات القضاء الثلاث، وهي رئاسة المجلس الأعلى للقضاء عن رئاسة محكمة التمييز عن رئاسة المحكمة الدستورية، أسوة بالدول الأخرى، بما ينهي احتمال التداخل، بل وتعارض المصالح ويحقق الحوكمة الطبيعية للسلطة القضائية في الحياد والاستقلالية والرقابة الذاتية.

المذكرة التفسيرية للمادة 57

أبرزت المذكرة التفسيرية بالتفسير الخاص للمادة 5٧ من الدستور ضرورات الالتزام بالأغلبية البرلمانية التي تأتي تلقائيا من النظام الحزبي، وتتغير وفقا له عند تشكيل كل حكومة جديدة، فأوردت «وتنحي الوزارة وتشكيل وزارة جديدة - ولو كان أعضاؤها كلهم أو بعضهم أعضاء بالوزارة السابقة - أمر توجبه الأصول البرلمانية التي تذهب في هذا الشأن إلى أبعد من ذلك المدى، إذ تقرر أن الوزارة الجديدة لا يستقر بها المقام – أو لا تعيّن أصلا تعيينا نهائيا – إلا بعد الحصول على ثقة المجلس النيابي الجديد، وهذا أمر منطقي، لأن تجديد الانتخاب معناه التعرف على الجديد من رأي الأمة».

5- من جماع ما تقدم ومجمله، يتبين كيف أن الدستور ومذكرته التفسيرية أوضحا أن الأحزاب السياسية لا تمثّل تهديدا على البلاد، ولا خطرا على الحكم الديمقراطي، كما أورد المجلس الأعلى للقضاء، بل على العكس من ذلك جعلت منه ركيزة وجوهرا للحكم الديمقراطي واستقراره.

مجلس القضاء يبدي رأيه في المواضيع المتصلة بمرفق القضاء فقط

كان يتعيّن على المجلس أن يفيد بأن الموضوع ليس من اختصاصه

المجلس سمح لنفسه بتناول الملاءمة السياسية والموضوعية للأحزاب

محاولة لزَجِّ القضاء في أعمال لا تمت له بصِلة وتدخّل باختصاصات السلطة التنفيذية

رأي المجلس مفتقد للأساس والسّند ويشوبه التسطيح

رأي شاذ اعتمد على اجتزاء من المذكرة التفسيرية وبالمخالفة لما ورد بها من جهة أخرى

رأيه جاء متناقضاً مع النصوص الحاكمة لاختصاصات مجلس القضاء
back to top