المحسن: «حكم البريطانية» حول الخروج من «الأوروبي» بداية توفيق القضاء بين الاعتبارات السياسية والقانونية لأعمال الحكومة

أكدت أن المحكمة العليا اعتبرت تصرف الحكومة يتعارض مع مبدأ سيادة البرلمان

نشر في 01-10-2019
آخر تحديث 01-10-2019 | 00:00
 د. فاطمة خالد المحسن
د. فاطمة خالد المحسن
انشغل العالم منذ عام 2016 بنتيجة الاستفتاء الدستوري الذي تقرر فيه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وتعاقبت الحكومات البريطانية منذ ذلك الوقت لتنفيذ هذا القرار، إلا أن معظم المحاولات كانت تبوء بالفشل. وتزداد الأمور تعقيدا كلما اقترب تاريخ 31 أكتوبر الجاري، باعتباره التاريخ الأخير لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخاصة أن البرلمان مرر قانونا جديدا في بداية الشهر المنقضي منع فيه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاقية يُصادق عليها البرلمان.

وعاد الموضوع ليشغل الساحة السياسية في بريطانيا مرة أخرى - بل العالم أجمع - عندما صدر قرار الملكة بتاريخ 28 أغسطس الماضي- بإيعاز من رئيس الوزراء بوريس جونسون- بإنهاء دور الانعقاد الحالي للبرلمان البريطاني، تمهيدا لبدء دور الانعقاد الثاني، والذي لا يبدأ إلا بإلقاء الملكة خطاب الافتتاح، الذي كان مخططا له أن يكون في تاريخ 14 أكتوبر الجاري.

مبررات

وقد أثار قرار الملكة حفيظة عدد كبير من البرلمانيين، الأمر الذي أدى إلى الطعن عليه أمام المحكمة الأعلى على مستوى المملكة المتحدة، وهي الـ Supreme Court، والتي أصدرت قرارها بتاريخ 24 سبتمبر المنقضي، برئاسة القاضية Lady Hale، وبإجماع جميع القضاة فيها، والذين بلغ عددهم 11 قاضيا (بمن فيهم ثلاث قاضيات نساء)، قررت فيه المحكمة اعتبار قرار إنهاء دور الانعقاد للبرلمان كأن لم يكن. وذكرت المحكمة في حكمها أن الأمر يعود للبرلمان ذاته في تحديد الخطوة القادمة، وأن مجلسَي البرلمان (مجلس العموم ومجلس الشيوخ) يستطيعان معاودة الاجتماع في أقرب وقت ممكن.

الآن، وبعد العرض السريع للوقائع، وصولاً لآخر المستجدات في الموضوع، فإنني أرغب في هذا المقال أن أحلل مبررات كل من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون التي دعته إلى أن يقترح على الملكة إنهاء دور الانعقاد الحالي للبرلمان، وهي مبررات سياسية بطبيعتها، ومبررات المحكمة العليا في بريطانيا، والتي تخالف توجهات الحكومة، وهي مبررات قانونية بطبيعتها، وصولا إلى التدليل على فكرة ضرورة المواءمة بين الاعتبارين السياسي والقانوني في إدارة ملف الـ Brexit، حيث إن القول بغير ذلك أدى في الحقيقة إلى ما هو عليه الوضع الآن في بريطانيا من تصادم سياسي قانوني قد يدفع الشعب ثمنه!

إن أول ملاحظة أسجلها هنا، أن الترجمة المتداولة في معظم المصادر العربية التي تناقلت الخبر لعبارة the prorogation of the parliament لم تكن دقيقة للدلالة على المعنى القانوني منها. فقد ذهب البعض إلى القول إن المقصود هو تعليق جلسات البرلمان، أو تأجيلها، أو حل البرلمان، في حين أن المعنى القانوني الصحيح هو إنهاء دور الانعقاد للبرلمان، وخاصة إذا علمنا أنه وفقا للنظام الدستوري البريطاني - والذي تتشكل معظم قواعده من أعراف غير مكتوبة - لا يوجد تحديد دقيق لمدة أدوار الانعقاد، وإن كانت واقعيا تخضع لمبدأ السنوية (حيث يبدأ دور انعقاد جديد مع بداية كل فصل خريف). وحتى مع صدور قانون في عام 2011 ينظم مواعيد انعقاد البرلمان، إلا أنه احتفظ بقاعدة عدم تحديد مدة دور الانعقاد، لكنه اقترح أن تبدأ السنة البرلمانية كل فصل ربيع (بدلا من كل فصل خريف)، مع العلم أن عُمر البرلمان البريطاني خمس سنوات.

دور الانعقاد

وبناءً على ما تقدَّم، فإن ثاني ملاحظة أود تسجيلها هنا، أن دور الانعقاد الحالي للبرلمان البريطاني - والذي صدر قرار الملكة بإنهائه - هو دور الانعقاد الأول الذي بدأ فيه البرلمان دورته الجديدة بعد الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في عام 2017. إلا أن البرلمان كان قد قرر استثنائيا مد دور الانعقاد لعامين متواصلين، وهو ما لم يحدث في تاريخ التجربة الديمقراطية البريطانية سابقا إلا مرة واحدة فقط، وتعد هذه المرة هي الثانية، وكان السبب في ذلك هو الرغبة في إعطاء البرلمان الوقت الكافي لكي يقرر في شأن القوانين التي كان من المفترض به أن يمررها لتهيئة بريطانيا للخروج السلس من الاتحاد الأوروبي.

وفي الرسالة التي أرسلها رئيس الوزراء جونسون إلى أعضاء البرلمان يعلمهم فيها بقرار الملكة بشأن إنهاء دور الانعقاد الحالي، ذكر أن امتداد مدة دور الانعقاد الأول للبرلمان لعامين متتاليين لم يؤد الغرض منه (ألا وهو تمرير قوانين الـ Brexit)، باعتبار أن مقترحات هذه القوانين كانت تتعطل بحجة الرغبة في إعادة النظر فيها بدور الانعقاد الثاني. لذلك، فإن جونسون كان يعوِّل على أن إنهاء دور الانعقاد الحالي للبرلمان سيمنحه فرصة جديدة في تمرير أجندته التشريعية، من خلال تضمينها لخطاب الملكة الذي ستفتتح به دور الانعقاد الجديد (والثاني)، وخاصة إذا علمنا أن هذا الخطاب يتم التصويت عليه من قبل البرلمان، وهي فرصة مناسبة لكي يقول أعضاء البرلمان كلمتهم الحقيقية بشأن مقترحات الحكومة، بدلا من المماطلة الحاصلة قبل ذلك.

المجلس الأوروبي

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن رئيس مجلس الوزراء على موعد مع المجلس الأوروبي للمفاوضة بتاريخ 17 و18 أكتوبر، وهو ما يدعونا للاعتقاد أنه كان يخطط أن يستند في مفاوضته القادمة - والأخيرة على الأرجح – إلى مخرجات مناقشة خطاب الملكة في البرلمان، أملا في الوصول إلى اتفاق مع المجلس الأوروبي يضمن موافقة البرلمان عليه، بحيث يتمكن من تمريره قبل التاريخ الموعود، وهو 31 أكتوبر الجاري.

إلا أن مطرقة القضاء البريطاني كانت لهذه الخطة الحكومية بالمرصاد! فقامت بوأدها بعد مدة قليلة من بدئها، من خلال الحُكم الذي أصدرته المحكمة الأعلى على مستوى المملكة المتحدة Supreme Court The، والذي قررت فيه اعتبار قرار الملكة كأن لم يكن.

وتجدر الملاحظة أن القضاء البريطاني أبدى اختلافا في التوجه القانوني في بداية الأمر، قبل أن يصل الأمر إلى المحكمة المذكورة أعلاه. ذلك أن قرار إنهاء دور الانعقاد تم الطعن عليه أول مرة أمام محكمتين مختلفتين؛ المحكمة الأولى هي المحكمة العليا على مستوى مقاطعتي إنكلترا وويلز. أما المحكمة الثانية، فهي المحكمة العليا على مستوى اسكتلندا. والمثير للاهتمام أن حكمهما جاءا متعارضين في مضمونهما. فبينما قررت المحكمة الأولى أن هذا الموضوع لا يقبل التقاضي بطبيعته، لأنه عمل سياسي وليس قانونيا، فإن المحكمة الثانية قررت قابلية هذا الموضوع للتقاضي، وقررت إلغاء قرار الملكة.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن المحكمة الأولى في رفضها فرض رقابتها القضائية على موضوع الطعن قد طبقت مبدأ في القضاء البريطاني يُعرف بـ Concept of Justiciability، والذي يعتبر أحد تطبيقاته عندنا ما نطلق عليه أعمال السيادة، حيث تمتنع المحكمة عن رقابة بعض أعمال الحكومة، لتعلقها باعتبارات سيادية أكثر منها قانونية. وإن كانت المحكمة الأعلى قد نقضت هذا الحكم، إلا أنه يعتبر بالنسبة لنا مؤشرا على إمكانية بداية تقبل القضاء البريطاني لفكرة التوفيق بين الاعتبارات السياسية والقانونية بالنسبة لأعمال الحكومة.

تعارض

وبسبب تعارض الأحكام الذي أشرنا إليه آنفاً، وصل الأمر إلى المحكمة الأعلى على مستوى المملكة المتحدة، وهي الـ Supreme Court، والتي قررت اختصاصها بالنظر في مدى مشروعية تصرفات الحكومة، والذي امتد لقرون مضت. وأكدت أن هذا التصرف من الحكومة يتعارض مع مبدأ سيادة البرلمان، والذي يقضي بصلاحية البرلمان في إصدار قوانين ملزمة للكافة، وهو ما لن يتحصل للبرلمان إذا تم القبول بفكرة إعطاء الحكومة الحق في تقليص مدة جلسات البرلمان. كما أنه يتعارض أيضا مع مبدأ مسؤولية الحكومة أمام البرلمان، باعتبار أن مثل هذا التصرف سيعرقل تفعيل هذه المسؤولية.

تجدر الإشارة إلى أن القاضية Lady Hale اختتمت نطقها بالحكم بهذه العبارة:

«Unless there is some Parliamentary rule of which we are unaware, ..».

وترجمة العبارة هي: «ما لم يكن هناك قاعدة برلمانية لم نكن نعلمها». وهو حقيقة ما توقفت عنده كثيرا، وأكد لي ما التمسته - أثناء قراءة الحكم- في أن المحكمة في صياغتها للحكم استخدمت لغة مرنة، بحيث إنها لم تجزم جزما قاطعا فيما يتعلق بموقفها من تصرف الحكومة بالشكل الذي قد يمنعها مستقبلا من إمكانية التراجع عنه أو تعديله! وهذا ما يرجعنا إلى عنوان المقال الذي اخترته، وهو ضرورة المواءمة بين الاعتبارات السياسية والقانونية في إدارة ملف الـ Brexit.

وأخيرا، أختم هذا المقال من وحي ما ختمت به القاضية Lady Hale وأقول: إن أصبت في هذا التحليل، فإنه من الله، ما لم يفتني شيء فهو مني والشيطان.

back to top