برنامج عربي... للتعاون مع هتلر

نشر في 05-09-2019
آخر تحديث 05-09-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر أرسل الحاج الحسيني مشروع التعاون مع هتلر وألمانيا النازية إلى برلين عام 1937 من مخبئه في لبنان، وقد حمله إلى القائد النازي "د. سعيد عبدالفتاح الإمام" رئيس "النادي العربي" بدمشق، وأحد خريجي الجامعات الألمانية، وتضمن مشروع التعاون الإعلامي والسياسي الذي اقترحه مفتي القدس، الطلب من ألمانيا معاضدة العرب وحركتهم الاستقلالية في مختلف المحافل الدولية، مقابل دعم العرب ألمانيا في عدة مجالات كتنمية التجارة ونشر الأفكار النازية في العالم العربي الإسلامي ومكافحة الشيوعية ومقاطعة البضائع اليهودية، ومكافحة إقامة دولة يهودية في فلسطين، والاستمرار في الكفاح في المستعمرات العربية ضد فرنسا ونشر الثقافة الألمانية، وتشجيع استثمار رؤوس الأموال الألمانية. (ص 236)

غير أن السلطات الألمانية لم تعر هذا المشروع بالاً، وشعر عرب فلسطين بالخيبة، حيث شككت الصحف الفلسطينية في جدوى التقرب من ألمانيا، وتساءلت صحيفة "الجامعة الإسلامية" في يافا "عما قدمته ألمانيا للعرب حتى تستحق السمعة الواسعة التي تتمتع بها"، وقالت: "إن سياسية العداء الألماني لليهود قد جاءت لنا بهجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين، وأصبح اليهود الألمان يشكلون أكبر المجموعات الغربية في البلاد. وتناولت هذه الصحيفة تصدير البرتقال العربي إلى ألمانيا مقابل استيراد بضائع ألمانية بضعف ثمنها الحقيقي، وما في ذلك من غبن يلحق بالتجار العرب. وتساءلت بعد ذلك عن أسباب هذا الموقف الألماني، وعن انخداع العرب بالصداقة المزعومة". (د. محافظة، ص 236 عن عدد 9/ 1/ 1938 من صحيفة "الجامعة الإسلامية").

مع بداية الحرب العالمية الثانية كانت الحالة في فلسطين سيئة للغاية، ومنذ اندلاع الحرب بات المفتي وبقية الزعماء الفلسطينيين في لبنان وسورية تحت الرقابة الفرنسية الشديدة، ولهذا قرروا الخروج سراً إلى العراق، وقد هرب الحاج أمين متخفياً من بيروت إلى بغداد وسبقه عبدالقادر الحسيني وأمين التميمي وفوزي القاوقجي قائد الثورة الفلسطينية وآخرون. (ص239)

في بغداد، كما سنرى لاحقاً، انزلق مفتي القدس الحاج أمين الحسيني للأسف في خطوة مخربة للمصالح الفلسطينية وبخاصة لعلاقاتها مع الوسط العربي، وكانت الخطوة بداية لسلسلة أخطاء في القرار الفلسطيني، تكررت في دول عربية أخرى في الأردن ولبنان، وامتدت حتى عام 1990، عندما اتخذت القيادات والنخب والجماعات والشخصيات الإعلامية ذلك الموقف المؤيد لمغامرة صدام حسين في الكويت. وقد دفع الفلسطينيون في الكويت لها ثمنا باهظاً، وعاد الموقف بالوبال على القضية الفلسطينية وأولوياتها ودمرت بوصلتها، حيث لا تزال أضراره مرئية وأصداؤه مسموعة.

وصل الحاج أمين الحسيني هارباً من الإنكليز والفرنسيين في لبنان إلى العراق، كقائد فلسطيني، إلا أنه سرعان ما انغمس في مشاكل وتحالفات العراقيين وبخاصة ضد الوجود البريطاني، متجاهلاً أولويات المصلحة الفلسطينية التي كانت تحتم التركيز على القضية، وعدم التدخل في قضايا البلد المضيف.

يقول المؤرخ د. علي محافظة: "لعب الحاج أمين دوراً بارزاً في الأحداث السياسية العراقية طوال فترة إقامته في بغداد بين 16 أكتوبر 1939 و29 مايو 1941. فمنذ وصوله إلى العاصمة العراقية شرع يتصل بالشخصيات السياسية العراقية من وزراء ونواب وزعماء وطنيين يتبادل معهم الرأي في القضية الفلسطينية خاصة والقضايا العربية عامة. ووجد المفتي نفسه يلتقي فكرياً والشخصيات العراقية ذات الاتجاه القومي، وكان هذا الفريق من السياسيين يرى أن لابد من الاستفادة من الوضع. وأصبح المفتي صديقاً حميماً لهذا الفريق من السياسيين العراقيين الذي يضم "رشيد عالي الكيلاني" و"ناجي السويدي" و"ناجي شوكت" و"موسى الشهبندر" و"يونس السبعاوي"، وتوثقت صلات المفتي بقيادة الجيش العراقي". (ص239- 240)

كان العالم وسط حرب كبرى والعراقيون منقسمون إلى فريقين: فريق يرى أن مصلحة العراق هي في التعاون مع بريطانيا والدول الحليفة ويمثله نوري السعيد وجميل المدفعي وتوفيق السويدي وغيرهم، وفريق آخر، يرى رأي المفتي، بضرورة تحاشي إغضاب دول المحور- ألمانيا، إيطاليا، اليابان- ومسايرة بريطانيا في نطاق الالتزام بما جاء في معاهدة التحالف العراقية- البريطانية وتجنب دخول الحرب، إذ كانت تجربة الشريف حسين بن علي وتنكر بريطانيا لوعودها التي قطعتها للعرب في الحرب العالمية الأولى لا تزال حية في نفوسها.

وكان من المنطقي والطبيعي أن يتبنى الفريق هذا الرأي، غير أنه، وهنا الخطورة، كان يرى أيضا وجوب ثورة العرب على بريطانيا وفرنسا إذا اشتركت روسيا واليابان وإيطاليا في الحرب إلى جانب ألمانيا، ووصلت جيوشها إلى مصر وإيران.

كان المفتي الحسيني شديد العداء لبريطانيا لأسباب عربية وفلسطينية واضحة، وكان لانهيار فرنسا أمام الزحف الألماني أثر كبير على المفتي والزعماء العراقيين المتعاونين معه من مؤيدي ألمانيا ودول المحور، إذ ازدادت ثقتهم بإمكانية انتصارها على قوى الحلفاء، ورأوا أن الوقت قد حان للتفاوض معها حول مستقبل البلاد العربية. وبالفعل تم إرسال وفد إلى أنقرة، يحمل رسالة من المفتي الحسيني إلى السفير الألماني في إسطنبول "فون باين" Von papen، تتضمن تهنئة الزعيم الألماني هتلر بالانتصارات التي أحرزها في الميادين الأوروبية، مع رجاء التفاوض مع الوفد حول المسألة العربية ومستقبل فلسطين والتعاون بين ألمانيا والعرب وعقد معاهدة صداقة.

كان وزير العراق المفوض في أنقره آنذاك "كامل الكيلاني"، شقيق رشيد عالي رئيس وزراء العراق، وكان لقاء "ناجي شوكت" رئيس الوفد العراقي بالألماني "فون بابن" "بداية لمفاوضات سرية طويلة بين المفتي والزعماء العراقيين الملتفين حوله من جهة وبين المسؤولين الألمان".

بدأ المفتي أمين الحسيني يتصرف وكأنه على رأس الحركة السياسية العراقية أو التيار القومي وربما كأنه رئيس الوزراء!

وبعد عودة "ناجي شوكت" إلى بغداد من تركيا بشهر واحد، أوفد المفتي سكرتيره الخاص عثمان كمال حداد إلى برلين يحمل المطالب العربية ومشروع بيان رسمي "حول سياسة دول المحور نحو البلاد العربية".

طالب المشروع بتصريح رسمي من دول المحور يشمل ست نقاط منها اعتراف ألمانيا وإيطاليا بالاستقلال التام للدول العربية، المستقلة حالياً منها والتي تحت الانتداب الفرنسي، "والتي هي مستعمرات أو محميات بريطانية، الكويت ومسقط وحضر موت. ومنها تعهد ألمانيا وإيطاليا بعدم اللجوء إلى أي أسلوب من الأساليب ضد استقلال البلاد العربية كأسلوب الانتداب، وأن تعتبر ألمانيا الوطن القومي اليهودي كياناً غير مشروع.

كان المفتي الحسيني على رأس ما تسمى "اللجنة العربية في بغداد" وقد تحدث "حداد" إلى المسؤولين الألمان عن هذه اللجنة، ووعدهم باسمها بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا وإبرام اتفاق معها حول استثمار الموارد الطبيعية العراقية.

وتبين من المشروع جوانب من طموحات وشطحات المفتي الحسيني، فقد وعد الألمان بأن العراق سيسعى إلى إقناع الدول العربية لإبرام اتفاقيات مماثلة مع دول المحور، "كما وعدهم بالتخلص من نوري السعيد، زعيم الفريق المعتدل من السياسيين العراقيين المنادين بالالتزام بالتحالف العراقي- البريطاني، وبإشعال نار الثورة في فلسطين وشرق الأردن". (د.محافظة، ص243).

واقترح حداد أن يتم الإعداد لهذه الثورة في سورية، وأن "يزود الثوار بالأسلحة من مستودعات الجيش الفرنسي في سورية والواقعة تحت تصرف لجنة الهدنة الإيطالية، أما الأموال المقدرة للإنفاق على هذه الثورة فتبلغ ثلاثين ألف جنية إسترليني شهرياً، تدفع اللجنة العربية في بغداد ثلثها والباقي تتقاسمه ألمانيا وإيطاليا".

وقد درس الألمان مطالب المشروع دراسة وافية، وأبلغوا عثمان حداد أن من المتعذر عليهم تلبيتها كاملة بسبب تعقيدات الوضع الدولي، أما المفتي أمين الحسيني فكان على أبواب مرحلة جديدة من حياته السياسية كما سنرى.

back to top