حجرة فوق السطح

نشر في 02-09-2019
آخر تحديث 02-09-2019 | 00:05
 فوزية شويش السالم لا يمكن أن تقرأ "جار النبي الحلو" دون أن تتيقن أن هناك شيئا قد لسع روحك، قوة يصعب فهمها أو تحليلها أو إدراك سرها، طاقة تخرج من أعماق روحه وجسده لتضخ عبر كلماته الماضية، لتحفر طريقها في وجدان وعقل وروح القارئ، كتابة تأتي بزمنها طوعا مستسلما ومسلّما كل تفاصيله لتسحب القارئ وتشفطه بكل يسر وسهولة في عالمها.

رواية "حجرة على السطح" تكملة للسيرة التي كانت بدايتها برواية "حلم على نهر"، وأعتقد أن جزأها الثالث رواية "قمر الشتاء".

حجرة على السطح تحكي طفولة وشباب جار النبي الحلو مع أهله ومعارفه وأصدقائه ومدينته المحلة الكبرى، التي تحتل دور البطولة بأعماله، حيث تنعكس كمكان يعيش ويتنفس وينمو ويتغير ويكبر مع حكايات سكانه بسرد سلس عذب مدهش بعفويته الساحرة وبساطته الآسرة، سرد عبارة عن "موتيفات" متناثرة أو ضربات ريشة لألوان دون رسم محدد، لكنها تتشابك كنقاط وتتجمع وتتوحد وتتراكم في نسيج كامل بانورامي متين كلما تقدم السرد، يأتي بكتابة سلسة صادقة متدفقة بسهولة كنهر جار من دون أدنى "حزق" أو تكلّف.

شخصياته تنغرز بالذاكرة من قوة نحتها وحضورها وتجليها، جار النبي يكتب بجسده أي بغريزة حواسه، لذا يملك القدرة على جذب القارئ مغناطيسيا للتفاعل مع كتاباته، وخاصية الكتابة بغريزة حواس الجسد لا يتقنها أي أحد، لأنها لا يمكن تعلّمها، وليس لها مدارس، فهي هبة ومنحة من حواس تكتب بما يحركها ويهزّها، والكثيرون يخلطون ما بين مفهوم الكتابة بحواس وغريزة الجسد، وما بين الكتابة الجنسية عن الجسد، هذه لا تشبه تلك بتاتا.

الكتابة بغريزة حواس الجسد تعني أن الكاتب تشترك حواسه الخمس وربما حتى الحاسة السادسة، إن كان يتمتع بها، بكتاباته، وغالبا هي ما تكتبه وتبث طاقاتها في النص، حيث تشارك بالكتابة من خلال بث حاسة الرؤية والتذوق والشم والسمع واللمس والبصيرة لتنصب طاقاتها بتحريك مشاعر وصورة وأصوات المشاهد، وهو ما ينعكس في كتاباته بوضوح تام، حين يكتب عن روائح الحقول وامتصاصها وتذوق ما فيها، وإحساسه بالضوء وبالأصوات وتغيّرات نبرها، وأحاسيس الناس من حوله يشعرك بنبضهم وبأنفاسهم، لأنه يحسهم ويعيشهم بقلبه ووجدانه، لذا جاءت الشخصيات حية مذهلة كل منها مثل جميل ومنصور والإسكافي وغيرهم، وكل منهم يصلح أن تدور حوله رواية، وبقية شخصيات الرواية هم كتّاب وشعراء معروفون، وإن لم يكشف الكاتب عن أسمائهم.

"كنا نتشح بالأحلام وأجسادنا عريانة في انتظار عيون يونيو الجارحة لتنتهكها، مكتوب على إيدينا، عبدالناصر في عنينا.

واقتحمت التظاهرة الحقول البعيدة تستنهضها من ليل ثقيل، فعلت أصوات صرصور الليل والضفادع وهبّت من مكانها الخفافيش تخبط في وجوهنا البائسة، وارتفع النباح من حيث لا ندري، ملأت رائحة الحقول صدري ودفعتني معهم حتى مساكن عمال الشركة، فخرج العمال يهرولون حفاة الأقدام، حاملين صوراً للزعيم كانت في الدواليب منذ احتفالات عيد العمال الفائت.

النسوة تجري تولول، والفتيات يلطمن، عندئذ تبلدت كل مشاعري، لا حزن ولا دمع ولا انفعال ولا هتاف ولا حتى مساندة فريد، تحول كل شيء وتجمع ليصير نقطة مرارة لم تبرح حلقي".

هناك كتابات جميلة رائعة، لكنها لا تتمتع بكتابة حواس الجسد، لأنها لا تملك هذه الهبة، أقرأها وأشعر بجمالها، لكنها لا تهز وجداني، ما يتملكني هي كتابات لقلة من الكتّاب الذين يكتبون بطاقات غريزة حواسهم، تلك التي تتغلغل في روحي وتشتبك مع أحاسيسي، وكأن بيني وبينها وشيجة الحبل السري، لا أعرف تفسيرا لهذا غير أنه نوع من التوحد والانصهار واتحاد الأرواح، لدرجة تشعرني بأنهم أنا ويخصوني جدا، ومنهم يحيى حقي وجار النبي الحلو وإدوار الخراط.

وأعترف بأني لا أستطيع أن أكتب عن أعمال جار النبي بحياد تام بعيداً عن مشاعري وأحاسيسي المرتبطة بكل التفاصيل الإنسانية التي أشم منها الرائحة المتشربة بوجداني منذ طفولتي.

"وكنت قد فتحت الباب فوجدتها ممددة على السرير بقميص نومها الداخلي الأسود الشفاف والجورب الناعم الشفاف، ما زال في قدميها بقعة ضوء بحجم الشمس من لحم حي مجدول بفتنة ونداء، وطار النمش من وجهها الأبيض نجوما تملأ سماء الحجرة، وحطت واحدة على جبيني فلسعتني، ساخت روحي، لم تنهض رمشت بأهدابها ترد ارتباكي وعطر يفوح له رائحة الياسمين".

back to top