السفر والبحر

نشر في 28-08-2019
آخر تحديث 28-08-2019 | 00:05
 طالب الرفاعي يتجدد الكثير من القناعات لديّ ويتغير مع كل سفر. أتخلى عن قناعات، كانت سابقاً جد صحيحة بالنسبة إليّ، وكنت مؤمناً جداً بصحتها، ولا أتصور إمكان التنازل عنها، وتنهض أمامي قناعات جديدة كنت لا أظن بإمكان تعاملي معها ووجودي تحت مظلتها.

لسنوات عشقت السفر بالباخرة «Cruise»، وهي بواخر ضخمة، مدن عائمة، تتجاوز حمولتها أربعة آلاف راكب، وتحوي ما يزيد على 16 طابقاً، بأسواق، ومسارح، ودور عرض سينمائية، ومستشفى، وحمامات سباحة، ونواد رياضية، ونواد لتسلية الأطفال.

خليط من البشر؛ سحن وأشكال وأجناس وأعمال ورطانات وثقافات وسلوك. مدينة عائمة تتهادى مبحرة ليلاً، دون أن يشعر الركاب بحركتها، ليستيقظوا صباحاً فيجدوا أنفسهم في ميناء جديد ودولة جديدة، كنت أستشعر متعة في الانتقال من دولة لأخرى، ومدينة وأخرى، دون مطارات ولا حمل حقائب ولا فنادق. غرفة مجهزة بكل وسائل الراحة، ومطاعم تعمل على مدار الساعة، وانتقال بين عالم وآخر.

لكن في سفرتي الأخيرة أبصرت نفسي أقف أمام قناعات جديدة، ما عاد بي صبر لتحمّل البقاء في البحر يحيط بي الماء من كل صوب مدة تزيد على اليوم ونصف اليوم، ولا عدت أستسيغ الانتظارات المتكررة عند كل نزول من الباخرة وعودة إليها، وصار يزعجني قائد رحلة في الباص يتحدث عن مدينة عظيمة بتاريخها، مغفلاً معلومات مهمة عنها، وخائضاً في قناعاته الشخصية، وأخيراً بدا لي أنني تغيرت بحيث ما عدت أستمرئ المرور خطفاً على عواصم ومدن عالمية مهمة، وصرت أميل إلى التأنّي والهدوء، وقيادة نفسي بنفسي، وبما يتناسب وراحتي وأفراد أسرتي، ويتماشى مع عمري وخبرتي وقناعاتي في الحياة.

كما أن أمراً برز واضحاً وهو تعلّق أبنائي بعالم شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية، وبالتالي صار الانقطاع عنها، يساوي بالنسبة لهم ومجايليهم الانقطاع عن الحياة نفسها!

نعم، وحده التغيّر هو الحقيقة الأسطع في الحياة، والمثل الكويتي يقول: «الحي يقلب»، بمعنى أن الميت وحده ساكن. لذا خرجت من رحلتي الأخيرة وكأني أودع البحر والباخرة وسفرات الـ «Cruise»، ولسان حالي يقول: ما عاد بي رغبة لهكذا عوالم. علماً بأن ما استوقفني هذه المرة وطوال أوقات الرحلة، وتحديداً في إبحار الباخرة ليلاً، هو عظمة البحر ورهبته ومخافته. ظلام ولا شيء غير الظلام، وكم دار ببالي الجهد والشجاعة الخرافيان اللذان تحلّى بهما البحارة الكويتيون وهم يقودون سفنهم الشراعية في ظلمات بحار ومحيطات الدنيا.

الباخرة التي كنت فوق سطحها هذه المرة كانت بمنزلة مدينة عائمة، وهي مجهّزة بكل وسائل التقنية البحرية الحديثة، وبكل وسائل الأمان، وبالرغم من ذلك بدت وكأنها عود كبريت في حضن بحر يموج بعوالمه وظلمته، وكنت أرى البواخر البعيدة وكأنها أشباح صغيرة تتحرك، وبقيت متلهفاً لليابسة بين يوم وآخر، والسؤال يلكزني في كل لحظة: كيف يمكن للبحارة البقاء لأشهر معلّقين بين ظلمة البحر وعناء البعد عن الوطن والأحبة!

في وسط كل هذا تذكرت أجواء روايتي «النجدي»، وتذكرت ربان الرواية وبطلها النوخذة علي ناصر النجدي وبطولاته التي جعلت أهل الكويت والخليج يطلقون عليه «سبع البحر». ودار ببالي العوالم التي عاشوها في سفرهم من الكويت إلى موانئ الخليج وجنوب الجزيرة وشرق إفريقيا، وصولاً إلى الهند، وكيف كان الداخل إلى البحر مفقوداً والخارج منه مولوداً. بحر علّمهم ممارسة الإيمان والتوكل على الله، وصقل شجاعاتهم، وخبراتهم البحرية التي شهد لها القاصي والداني، وجعل منهم تاريخاً يحق للكويت وأبنائها الفخر والافتخار به.

بقي أن أقول: السفر متع، لكن المتعة الأكبر هي العودة إلى الوطن، فلا شيء يعدل المشي فوق تراب وطني، وعيش بيتي وأهلي وأصدقائي وعالمي.

back to top