ذكريات الجوافة (3)

نشر في 19-08-2019
آخر تحديث 19-08-2019 | 00:01
 فوزية شويش السالم الجزء الأخير من الكتاب يبيّن رؤية جورج البهجوري لأعمال الفنانين العالميين مثل بابلو بيكاسو وماتيس وسلفادور دالي: «الخط عند بابلو بيكاسو، يغرد مع الحب ويبكي مع المأساة ويتحشرج مع قضية إنسانية، ويعلن التزام الرسام وشهادته على عصره».

«ماتيس، يتباهى بطفولته بالرسم، وهو بالثمانين من العمر يستعمل المقص في سنوات عمره الأخيرة عندما تعبت أنامله، فلم تعد تقبض أو تمسك ولا حتى الفرشاة، وتصبح أعماله بالمقص «مزهزهة» ملونة أكثر من اللازم».

بكل عفوية وبساطة تكلم عن مطبخ العمل: «أتناول وجه طفل مشبوك على الحبل، ثم أضيف إليه بعد لصقه على القماش رقبة ثم ثدي امرأة وبطن أم وذراع بضة وفخذ مستدير».

اكتشف امرأة باللوحة لها وجه طفلة، فأشعر مع الاكتشاف بعملية الخلق حتى تكتمل، بإضافة الألوان ودرجاتها ثم انتقل إلى عملية التشطيب الأخيرة، وهي عملية ربط هذه العناصر الآدمية وانسجامها، كأن لها عرقا وعطرا واحدا، وهو فن الهارموني كما في الموسيقى وكما القافية بالشعر.

هذه الفترة الطويلة بفن الكولاج جعلتني أتساءل: لماذا أضع كل هذا على سطح قماش؟ تحول الكولاج مع قطع الخشب التي جاء بها جاري الروماني من الغابة إلى نحت ملون».

لعل رسالة أستاذ الفن الروائي إدوار الخراط أكثر ما أسعدتني قراءته بهذا الكتاب، رسالة رائعة تجسد روح وفكر ورؤية فنان الرواية الرائع الذي أكرمني الزمن بصحبته، كتب إلى جورج البهجوري رسالة جعلتني أتحسر على انقضاء زمن الرسائل، خاصة عندما تأتي من صاحب رؤية فنية أدبية جمالية عظيمة، من بعد إذن الكاتب أعيد نشر الرسالة لأهمية الرأي الفني الذي ورد فيها: «العزيز جورج... سعدت بتلقي رسالتك الشيقة، كتابك عن الأيقونة، رسوماتك الوترية الجميلة.

أنت طبعا تثير قضايا كلها حيوية، وأنا معك في الحرية في الفن، لكني أتصور أن الفنان يوجد له قانونه الخاص الداخلي في تركيبة العمل الفني، حتى لو كان خفيا عليه، إنما الانطلاق تماما مثل قاعدة، فلا يمكن أن يكون صحيحا.

مارس حريتك تماما يا عزيزي جورج، كما تفعل في الفن وخاصة بالتصوير أو الرسم. لكن دع العمل نفسه يفرض، أو يوجد قانونه أو قاعدته الخاصة التي ربما لم تكن مسبوقة، أو هي على كل حال ليست جاهزة سلفا.

ومن خلال هذه الحرية وهذا القانون الداخلي، الخاص بي، لا يغري أحد أن يقول لك ما هو البناء أو ما هو المنولوج الداخلي أو غير ذلك من التقنيات والأساليب والطرق الصاعدة، لا فرق بين هذا الجوهر العميق الذي يستحدث أو على الأقل يختار أسلوب صياغته.

وليس الصدق مجرد محاكاة ما حدث أو مجرد حكاية، الواقع الصدق الفني من أصعب الأشياء.

تعريفا، فلنقل إنه وضع السؤال بحرارة وطبعا سليما أو صحيحا أو جميلا، أما الإجابة فليس هناك إجابات، كل شيء آخر يأتي بعد ذلك، بما في ذلك تسمية التناسق بين العامي والفصيح، بين الخيال والسيرة الذاتية.

أما أنا فأسعد جدا أن يكون الفنان متعدد المواهب، وكم تمنيت أن أكون رساما أو موسيقيا أو نحاتا، لا أطلب إلا أن أفعل ذلك بالجملة بالحرف بالفقرة وبالعمل الكتابي نفسه».

السيرة لم تكشف الحياة العاطفية لجورج البهجوري إلا فيما ندر، وأحيانا يختبئ وراء ضمير مستتر حين يأتي على ذكر علاقات الحب والجنس، وربما طغى الفن على حياته وبات دور المرأة هو المتبقي من فتات الفن، وهذا ما كتبه برسالة إلى صديقه:

«هذا الرسم لأثبت لك أن كل لقاء كان من أجل الفن، وهذا ربما سر لا أبوح به، وكأن الحب موضوع وليس تجربة أعيشها كاملة، فلذلك أجمل لحظة هي هروبي في الوقت المناسب، ويبقى بعد ذلك... الفن، اللوحة، والرسم».

ويتحسر على دور الفن التشكيلي الذي يأتي خلف الأدب حين يذكر دور كل منهما في مصر، فيقول الرسامون في مصر لا يقرأون الأدب، والأدباء بمصر لا يعرفون قراءة الرسم أو اللوحة، والقضية لها عمر طويل منذ الكلمة المقدسة - اقرأ- والتوراة من قبلها- في البدء كانت الكلمة- مما جعل للكلمة القدسية والكهنوت الأول.

على الصعيد الشخصي، ومعاشرتي الثقافية لأدباء في مصر، الأديب هو السلطان والرسام هو الجارية التي ترقص عارية للسلطان، فيعتدل مزاجه ويصفق لها».

back to top