إعادة رسم الخطوط الفاصلة بعد ثلاثين عاماً على نهاية الحرب الباردة

نشر في 30-06-2019
آخر تحديث 30-06-2019 | 00:00
المذهل أن بعض السياسيين أو بعض الناخبين يعربون عن إعجابهم بشخصية بوتين القوية، أما الرئيس الأميركي فمعجب ببوتين بحد ذاته، ويذكّر هذا بأن المخاطر التي تواجهها الديمقراطية لم تُزل، مع أننا نحتفل بالذكرى الثلاثين لولادة أوروبا الحرة.
 ذي ناشيونال لم تعد المعركة معركة بين عقيدتَي الشيوعية والرأسمالية المتنافستين، بل باتت معركة بين النظام والاضطراب.

تستعد اليوم دول أوروبا الشرقية للاحتفال بالذكرى الثلاثين لتحررها من الشيوعية السوفياتية، إذ تُعتبر سنة 1989 إحدى السنوات الأكثر زخماً في التاريخ العالمي، فقد انتصر الغرب في الحرب الباردة، ولكن ثمة إشارات إلى أن القيم الديمقراطية الغربية التقليدية تفقد سيطرتها على السلام. أكتب من برلين، تلك المدينة المليئة بذكريات الحرب الباردة، حيث يخطط الألمان للاحتفال بسقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الشيوعية، وحلم توحيد ألمانيا الذي بدا مستحيلاً في الماضي.

تجولتُ أخيراً في برلين مع صديق لي لم يسبق له أن زار هذه المدينة، فأصر على التوجه إلى نقطة التفتيش شارلي. كانت هذه نقطة العبور الأكثر شهرة بين شرق برلين وغربها، اللذين شكلا خط المواجهة الأمامي بين قوتين متسلحتين نووياً لهما عقيدتين متنافستين.

صديقي جزء من جيل من الناس تربى على فكرة أن نقطة التفتيش شارلي تشكّل الموقع الذي ستندلع فيه الحرب العالمية الثالثة. كان كل مواطن من ألمانيا الشرقية يحاول الفرار بتسلق جدار برلين يُردى قتيلاً أو يُسجن، ورغم ذلك بدت المنافسة بين هاتين القوتين العظميين أحياناً هزلية بعض الشيء.

في ستينيات القرن الماضي، شيّد الشرق الشيوعي برج تلفزيون ضخماً في ميدان ألكسندر، وحرص على أن يكون أكبر من منافسه في برلين الغربية، وصار اليوم معلماً محبوباً جداً يعلو فوق المدينة الموحدة.

مشينا أنا وصديقي في شارع فردريشتراسيه، الذي أصبح اليوم منطقة تسوق فاخرة، وتوجهنا نحو نقطة تفتيش شارلي. راح صديقي يضحك عندما رأى بضعة ممثلين يرتدون ملابس جنود أميركيين وروس ويقفون قرب أكياس رمل شبيهة بما يستعمله الجيش، كان المارة يقفون قربهم لالتقاط الصور، وهكذا لم يتبقَّ من الإشارات الواضحة إلى جدار برلين اليوم سوى العروض التي تُقدّم للسياح.

من الصعب تخيُّل أن جنوداً مدججين بالسلاح، وشرطة الحدود، ودبابات شغلوا هذا الشارع هنا طوال سنوات، إذ تهيمن على هذا الشارع اليوم لوحة كبيرة لمطعم ماكدونالدز.

ولّد النظام السوفياتي اقتصاداً راكداً وقيادة هرمة وعجزا عن منافسة الابتكار، والاستهلاك، والريادة في مجال الأعمال في الغرب.

في مطلع عام 1989، ظهرت إشارات إلى أن الشيوعية تعاني ضغوطاً كبيرة. كنت مراسلاً لشبكة "بي بي سي" عندما احتل الطلاب الصينيون ساحة تيانانمين في بكين في حين كان قائد الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يستعد لزيارة الصين.

في العلن، كانت كل المسائل تسير بود بين البلدين، ولكن في الكواليس، أخبرني المسؤولون الصينيون أن غورباتشوف "مجنون" لانطلاقه في تطبيق مشروع البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والانفتاخ) الذي وضعه في الاتحاد السوفياتي.

أوضحوا لي أن من الممكن إصلاح نظام اقتصادي وأن من الممكن أيضاً إصلاح نظام سياسي، إلا أنه ما من قائد يستطيع القيام بالاثنين معاً من دون التسبب بفوضى. وكانوا محقين، فقد أوقفت بكين تظاهرات ساحة تيانانمين، بيد أنها حررت الاقتصاد وبنت دولة صينية عصرية يحفزها الاستهلاك.

بدت إصلاحات غورباتشوف أكثر طموحاً بكثير، إلا أنها قادت بالتأكيد إلى الفوضى وإلى انهيار الاتحاد السوفياتي، ونتيجة لذلك وُلدت مجموعة من الديمقراطيات الجديدة من البلطيق وصولاً إلى الجمهورية التشيكية في حين اندمج شرق ألمانيا مع غربها.

تحدث الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب عن "نظام عالمي جديد" وعن "عالم أحادي القطب" يضم قوة عظمى واحدة: الولايات المتحدة. كذلك توسّع حلف شمال الأطلسي ليضم بولندا ودول البلطيق، ورحب الاتحاد الأوروبي أيضاً بأعضاء جدد في عام 2004، وهكذا سادت المثل الديمقراطية خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ولكن بعد مرور ثلاثين عاماً، لم تعد راسخة كما في السابق. في عام 2019، نعيش في عالم مليء بالديمقراطيات المضطربة والمؤسسات الديمقراطية المضطربة، فقد زُعزعت أسس حلف شمال الأطلسي، في حين لا يبدو الاتحاد الأوروبي منظمة سعيدة البتة، ففي بريطانيا مثلاً، كشف مسح أجرته مؤسسة "هانسارد"، وهي مجموعة محايدة، أن 54% ممن شملهم المسح أرادوا قائداً أقوى لا يتقيد بالقواعد، في حين ظن 42% أن من الممكن معالجة الكثير من المشاكل إذا لم تعتمد الحكومات على أصوات البرلمان. يمثل مثيرو الاضطرابات السياسيون، أمثال دونالد ترامب، وفلاديمير بوتين، وماتيو سالفيني، ونايجل فاراج، حركة استبدادية لن تنحسر قريباً على ما يظهر. يعتمد هؤلاء خطاباً قاسياً ويعِدون بخطوات صارمة، إلا أن التغيير الذي ينادون به لا يمثل التعاون والتماسك، بل على العكس، يريدون نظاماً عالمياً جديداً.

وهنا تنشأ نقطة مثيرة للاهتمام، ففي زمن الحرب الباردة أُعجب عدد كبير من الأوروبيين الغربيين بالثقافة الروسية، لكن روسيا بقيادة بوتين لا تضم شخصيات ثقافية عظيمة: لا نرى شخصيات بارزة مثل ألكسندر سولجنيتسين، أو بوريس باسترناك، أو أندريه تاركوفسكي، كذلك يفتقر بوتين إلى عقيدة متجانسة تشمل العالم بأسره، فما يملكه يقتصر على الأسلوب، أسلوب الرجل القوي المشاغب المتباهي بعضلاته.

يبلغ الناتج الوطني الإجمالي للفرد في الولايات المتحدة 53 ألف دولار وفي ألمانيا 48 ألف دولار. أما في روسيا، فلا يتخطى 12 ألف دولار، ومنذ عام 1989 تعاني روسيا الفشل الاقتصادي. لكن المذهل أن بعض السياسيين أو بعض الناخبين يعربون عن إعجابهم بشخصية بوتين القوية، أما الرئيس الأميركي فمعجب ببوتين بحد ذاته، ويذكر هذا بأن المخاطر التي تواجهها الديمقراطية لم تُزل، مع أننا نحتفل بالذكرى الثلاثين لولادة أوروبا الحرة. قد تسقط الجدران، ولكن من الممكن إعادة بناء أخرى أعلى بعدها.

* غافن إسلر

*«ذي ناشيونال»

back to top