حدّث العاقل بما...!

نشر في 14-05-2019
آخر تحديث 14-05-2019 | 00:19
 د.نجم عبدالكريم من احترفوا الكتابة الصحافية في العصر العباسي كانوا يتفنّنون في القصص التي يكتبون لها سيناريوهات تتواءم مع عقول مَن يُقبلون على دكاكين الوراقين ويقتنعون عند قراءتها بأنها تحتوي على حوادث حقيقية وأحداث واقعية، لما تتضمنه من أسماء لها مكانة سياسية أو أدبية وحتى دينية.

• كان عندي مشروع أن أجمع نماذج من هذه السيناريوهات الحافلة بالضحك على الذقون، والتي دوّنَتها الصحافة العباسية لتصل إلينا وتُؤخذ على محمل الصدق والجدية، بل إن هناك من يصر على صحتها رغم عدم معقوليتها... وإليكم هذه الرواية:

***

• دخل أعرابي على معن بن زائدة فقال له:

- أتذكر إذ لحافك جلد شاةٍ... وإذ نعلاك من جلد البعيرِ

فقال معن:

- نعم أذكر ذلك جيداً، حينما كنا نعاني فاقةً في عيشنا.

فأجابه الأعرابي:

- فسبحان الذي أعطاك مُلكاً... وعلمك الجلوس على السريرِ

فقال معن: سبحان الله!

فرد الأعرابي:

- فلستُ مُسلّماً إن عشتُ دهراً... على معنٍ بتسليم الأمير

فقال معن: السلام سنةٌ يا أخا العرب.

فرد الأعرابي:

- سأرحل عن بلادٍ أنت فيها... ولو جار الزمان على الفقير

قال معن: إن جاورتنا فمرحباً بك، وإن رحلت عنا فمصحوباً بسلامة الله.

فأجابه الأعرابي:

- فجُد لي يا ابن ناقصةٍ بشيءٍ... فإني قد عزمت على المسير

فقال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها على السفر.

فاحتج الأعرابي:

- قليلٌ ما أتيتَ به وإني... لأطمح منك بالمال الكثير

قال معن: أعطوه ألفاً أخرى.

فرد الأعرابي:

- سألت الله أن يبقيك ذخراً... فما لك في البرية من نظير

فقال معن: أعطوه ألفاً أخرى.

فإذا بالأعرابي يقول:

- يا أمير، ما جئتُ إلا مختبراً حلمك لما بلغني عنه، فقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قُسّم على أهل الأرض لكفاهم.

فقال معن: يا غلام كم أعطيته على نظمه؟

- ثلاثة آلاف دينار يا مولاي.

فقال معن: أعطِه مثلها على نثره.

***

• لا أريد أن أعلق على ما كان يتفنن به الصحافي العباسي، لأن الأدبيات التي تتناول حلم وكرم معن بن زائدة كلها تؤكد على مفهوم هذه الصفات التي يتمتع بها هذا الرجل، وفيها من المبالغات ما لا يصدقه عقل، ولكنها كما قلتُ الصحافة العباسية التي يصدقها بعض أبناء هذا الزمن الراهن بكل ما يُكتب من أكاذيب ومبالغات، حتى صار البعض يتعامل معها وكأنها تراث مقدس.

***

• ما تحفل به المجلدات التراثية من العصر العباسي قد شكّل انعطافات خطيرة في تاريخنا، لأن العباسيين كانوا يعزفون على أكثر من وتر، فهم يرون لهم الأفضلية بحكم قربهم من رسول الله، وكذلك يريدون مسح الدولة التي سبقتهم، ثم إن عصرهم كان يعج بالانفتاح على حضارات أخرى؛ من فارسية وهندية وصينية، فصارت الكتابات التي يؤتى بها من الصحافة العباسية تعج بالنماذج التي جئنا على أحدها، وهي لا تقل خطورة عن إعلامنا المعاصر لما يحفل به من النفاق والزيف والأكاذيب.

back to top