ما مصير الجامعات؟

نشر في 11-04-2019
آخر تحديث 11-04-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر صارحت مجلة "الفيصل" السعودية العالم العربي بحقيقة صعبة الاستيعاب، عندما أعلنت على غلاف عددها في مارس- أبريل 2019، ما اعتبرته "تلاشي الدور الريادي للجامعات!"، بمعنى أن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العربية، من المحيط إلى الخليج، في أكثر من عشرين دولة، قد فقدت دورها القيادي، في مجتمعات العالم العربي كلها!

ولا شك أن هذا التنبيه ليس مؤلماً فحسب في مدى تعريته لحجم التقدم الثقافي العربي المتواضع وحده، ولا تشكيكه في مستقبل التعليم في بلداننا عموماً، بل هو كذلك إعلان بالغ الخطورة عن اهتزاز وربما زلزال في مجال التنمية، وبخاصة التجارب الآسيوية من اليابان وكوريا حتى سنغافورة، والتي صرحنا مراراً أننا نقتدي بها ونخطط للحاق بها، والتي كان التعليم معقد أملنا، وبمثابة الأداة التنموية السحرية التي عجلت في تنمية تلك المجتمعات الآسيوية نحو التحديث الاقتصادي والصناعي والتجاري، في حين تضاءل الأمل في التعليم الأكاديمي في بلداننا وجامعاتنا، وبعد أن تحولت الجامعة في آراء مفكرين وباحثين، تقول المجلة الدورية، "إلى مجرد مركز أو مؤسسة تخرج موظفين يشغلون وظائف هنا أو هناك، كأنما لم يعد اليوم من أهمية التعليم الجامعي سوى أنه يوفر للطالب شهادة جامعية تؤهله لنيل وظيفة، وفي المقابل سيتخرج هذا الطالب صفر اليدين من المخزون الفكري والتحصيل الثقافي، فباعتراف أكاديميين ومفكرين وباحثين تعيش الجامعة في الوطن العربي في أزمة". وتقول المجلة: "عندما يغيب الدور الطليعي والتنويري للجامعة، تدخل الجامعة في عزلة عن المجتمع". (ص13).

الكاتب السعودي محمد علي المحمود، عبر عن الواقع الأكاديمي في ملف المجلة بمقال عنوانه "الجامعات في العالم العربي.. واقع مزرٍ": لقد نشأت أولى الجامعات عام 1866 بأشكالها الحديثة، مع تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت التي أدخلت المعرفة الأكاديمية الحديثة إلى العالم العربي، ثم تأسست جامعة القاهرة سنة 1908، وكان ضمن طاقم التدريس فيها العديد من أعلام المستشرقين. وانطلقت "جامعة القاهرة" قوية فتية، وأدت دوراً مؤثرا تجاوز إطارها المصري الخاص، وتمدد إلى جميع أنحاء العالم العربي، كما قام خريجوها بدور رئيسي في التنمية، "واستمرت في الصدارة عن جدارة واستحقاق لأكثر من نصف قرن، حتى بدأت في التراجع وأخذت كثير من الجامعات العربية تتجاوزها قيمة وتأثيراً".

وهكذا تراجعت الجامعات عن كونها مراكز موثوقة للبحوث العلمية الرائدة، وتحولت الجامعات، وهذا أسوأ، إلى "مجرد صورة مكبرة للمدارس الثانوية التي لم يعد ثمة فارق نوعي بينها وبين تلك الجامعات"، كما تقول المجلة. لقد كانت الجامعات العربية في بداياتها، يقول "المحمود"، تعي دورها التنويري الرائد وأنها "ليست مجرد مراكز تدريب"، ولم تكن منفتحة على الأفكار الحديثة فحسب، بل إننا اليوم ونحن ندرس تاريخها، تأخذنا الدهشة بعيداً عندما نتذكر تلك الأسماء الأجنبية الاستشراقية اللامعة التي كانت تعمر جامعة القاهرة في بدايات نشأتها، ومدى تمتع كوادر التعليم بالروح الليبرالية المتسامحة والتي "تعرضت للضمور لاحقاً، ثم للاضمحلال التام... بعد تعرضها لعدوى الرؤية الشوفينية، وتحديدا بعد ازدهار ما سمي "حركات الاستقلال"، وبعد أن تمكن العسكر البعيدون عن الهموم المعرفية والثقافية من السيطرة على كل مفاصل السلطة في كثير من الأقطار العربية، وهكذا تراجع دور الجامعات واستقالت من أهم وظائفها، وتراجعت عن كونها مراكز موثوقة للبحوث العلمية الرائدة". وتحولت الجامعة بالنتيجة، "إلى مجرد صورة مكبرة للمدارس الثانوية"!

كان يفترض أن تكون جامعة القاهرة وجامعة دمشق وجامعة بغداد مثلاً، معدودة في أهم 500 جامعة على مستوى العالم، لكن للأسف "انحدر مستواها كثيراً، حتى تجاوزتها جامعات عربية نشأت بعدها بخمسين سنة أو أكثر". ويشير الكاتب إلى تصنيف "كيو-إس" للجامعات العربية لعام 2018، الذي يشمل 100 جامعة عربية، حيث تميزت السعودية بثلاث جامعات متقدمة، والإمارات بجامعتين، في حين لبنان ومصر والأردن وقطر وعمان، كل منها تميز بجامعة واحدة. ولم تكن الجامعة المصرية البارزة هي "جامعة القاهرة" العريقة، بل كانت "الجامعة الأميركية في القاهرة". حاولت الجامعات العربية التعويض عن دورها الريادي والتنويري والابتكاري، وتراجعها في مجال التطوير بالتركيز غالباً، يقول الباحث، "على الجوانب الثانوية: المنشآت الضخمة، وزيادة عدد الأساتذة، وزيادة عدد الطلاب"، المفكر المصري د. حسن حنفي شن في المجلة هجوماً جذرياً كاسحاً على الواقع الأكاديمي المؤلم في الجامعات المصرية، وقال "إن الجامعات المصرية وبخاصة "جامعة القاهرة"، نشأت في ظل الحركة الوطنية المصرية الداعية للحرية والاستقلال وتحقيقاً لدعوة ثورة 1919". ونحن الآن- في 2019- على مبعدة قرن من ذلك التاريخ، غير أن ما جرى لمصر جرى كذلك لحياتها الأكاديمية!

"أصبح الجيش هو المنوط به التحديث حتى الآن، والجيش يأمر فيطاع، واستُبعد من الجامعات الإخوان والشيوعيون، أهم تيارين فكريين في البلاد، أصبح الأستاذ بلا هوية، والطالب بلا رؤية لهموم الفكر والوطن، وتحولت الجامعة إلى مجرد كتاب مقرر يوفره الأستاذ للطالب ويبيعه له نقداً. تقلصت مجانية التعليم حتى أصبح الطالب المصري يدفع بالألوف والطالب العربي بعشرات الألوف، أصبحت مهمة الطالب تجميع أكبر قدر ممكن من درجات الـA، ويزداد النقل باعتماد الطالب على شبكة المعلومات Internet التي توفر كل شيء من دون الذهاب إلى المكتبات أو قراءة الكتب أو البحث عن المادة". ماذا عن مستقبل الطالب، وكيف يواصل مسيرته الوظيفية؟ يقول د. حنفي، أستاذ الفلسفة المعروف: "يأخذ الطالب الدرجة العلمية، ويتحول إلى معسكر البطالة. ثم يقبل أن يعمل أي شيء في المطاعم أو السوبرماركت"!

ماذا عن الجو الفكري داخل الجامعة؟

يقول: "نظراً لقبضة النظام السياسي على الجامعات منذ عام 1952 حتى الآن فقد منع الحديث في السياسة خوفاً من التنظيمات اليسارية، وفي الدين خوفا من الجماعات الإسلامية، ومُنعت الانتخابات الحرة لاتحاد الطلاب".

حديث د. حنفي عن البحث العلمي من الجامعة نؤجله إلى مقال قادم لنستمع إلى ما قاله الكاتب اللبناني أحمد فرحات "الجامعة اللبنانية"، في دورية "الفيصل" نفسها! يقول في مستهل حديثه، خرّجت شعراء وكتاباً ومثقفين مميزين. كانت هذه الجامعة "قد وُلدت كجامعة للفقراء، مقابل الجامعات الأجنبية التي لا يتحمل أعباء نفقاتها غير الأغنياء... أو جامعة "القديس يوسف" التي نشأت في بيروت وعرفت بكونها العقل الأبرز لليمين اللبناني المتشدد، كما تخرج منها أيضا جيل طلائعي من جماعات اليسار المتطرف، و"اليسوعية" من الجامعات العريقة جداً في لبنان تخرج منها سبعة رؤساء جمهورية في لبنان، كما خرجت أدباء وشعراء كبارا أمثال ليلى بعلبكي، وأمين معلوف، ومن خريجيها أيضا الكتّاب خليل رامز سركيس وغسان سلامة وكريم بقرادوني.

وقال إن الجامعة الأميركية في بيروت هي الأعرق والأقدم في لبنان، وعدد من خريجيها السياسيين "جورج حبش" مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو ما قاد إلى بداية التفكير بتأسيس حركة القوميين العرب، هذه الحركة التي أسهم أيضا في تأسيسها خريج آخر من الأميركية، هو البرلماني الكويتي المعروف أحمد الخطيب". ويضيف :"هذا من دون أن ننسى الدكتور سليم الحص والصحافي الكبير غسان تويني والمفكر البارز شارل مالك وأحد أبرز دعاة القومية العربية الدكتور قسطنطين زريق والمفكر اللامع منح الصلح".

ولكن الأمور تغيرت في رأي "أحمد فرحات" اليوم في سائر الجامعات اللبنانية، "فاليوم تعيش الجامعات المحلية حالة تراجع انهيارية مريعة، ولا عاد المتخرج منها يتمتع بالإمكانات والمعرفة والكفاءة بما يؤهله كي يدير أو يقود، بل لعله لم يعد يهدف إلى تحقيق ذلك أساساً، مفتشا عن شهادة تتيح له عملا مأجورا. لقد تعطلت "الآلة الجامعية"، وسقطت، وعملية السقوط أخذت معها الأستاذ المحاضر والطالب والمتخرج في قبضة واحدة، كأنما التعليم العالي في لبنان أصيب بحالة موت سريري، لم تفارقة الروح، إنما لا عضو فيه يعمل، ولا ملكة من ملكات عقله تشرق لتضيء الطريق، فلا المتخرج الجامعي اليوم هو نفسه الذي كان، ولا مستواه المعرفي كذلك، ولا عمقه الثقافي، ولا إحاطته الموسوعية، ولا كفاءته. وهذا الواقع البائس ليس حال الجامعات في لبنان فحسب، بل هو ذاته واقع الجامعات عموماً في مختلف بلداننا العربية، المضطربة منها والمستقرة، الغنية منها والفقيرة، الكبيرة منها والصغيرة، مع شديد الأسف". (ص24-31).

وقد نكون نحن القراء بحاجة إلى وقفة تأمل، قبل أن يغمرنا الاستياء والتشاؤم من واقع الجامعات! فلا جدال في تراجعها، وفي تغير طبيعة الأستاذ ومستوى الطالب، وفي انحدار وربما غياب البحوث والدراسات البارزة في نتائج الجامعات، ولكن هل الحياة الأكاديمية عالمياً اليوم، على ما كانت عليه في أوروبا والولايات المتحدة قبل عقود؟ وهل الجامعات تقود العالم أم الشركات والاستثمارات؟ ثم، وهذا ربما الأهم، هل أصحاب الأفكار الجديدة والخلاقة في مجال الاقتصاد والاختراع والثقافة الإلكترونية وبعض كبار رجال الأعمال من خريجي الجامعات؟ أم من الفاشلين في الدراسة الجامعية أحياناً؟ ما رأيكم؟

back to top