بعد هانوي... كوريا الشمالية والولايات المتحدة واليابان

نشر في 10-03-2019
آخر تحديث 10-03-2019 | 00:00
السؤال المهم الذي ينشأ من محادثات هانوي: ماذا ستفعل اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وتتمتع بوضع سكاني مستقر ومتجانس، وقوة عسكرية كبيرة، وقدرة ضخمة على زيادة هذه القوة؟
 جيوبوليتيكال فيوتشرز انتهت محادثات هانوي إلى حائط مسدود، إذ لا تشكّل الحرب مع كوريا الشمالية خياراً جيداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فهنالك خطر نيران المدافع القريب من سيئول، وعدم معرفة مواقع الأسلحة النووية الكورية الشمالية بالتحديد، وكره الولايات المتحدة لفكرة التورط في حرب أخرى هذا القرن، وفي المقابل تدرك كوريا الشمالية أن الخطوة الوحيدة التي قد تحفز ضربة نووية استباقية أميركية تطويرها أسلحة تبلغ الأراضي الأميركية، وتود أن تتفادى ضربة مماثلة مهما كلف الأمر. إذاً، تولّد هذه المفاوضات الفاشلة واقعاً تُعتبر الحرب فيه بعيدة الاحتمال، مما يتيح لكلا البلدين التمسك بعناده.

لكن السؤال المهم الذي ينشأ من محادثات هانوي: ماذا ستفعل اليابان اليوم؟ اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وتتمتع بوضع سكاني مستقر ومتجانس، وقوة عسكرية كبيرة، وقدرة ضخمة على زيادة هذه القوة.

قررت الولايات المتحدة القبول بكوريا الشمالية كدولة نووية طالما أن أسلحتها النووية لا تستطيع بلوغ الأراضي الأميركية، لكن هذا يزعزع بالكامل الاستراتيجية اليابانية، وبموجب هذه الاستراتيجية، التي طبقتها بادئ الأمر الولايات المتحدة ومن ثم تبنتها اليابان برحابة صدر، تضمن الولايات المتحدة الأمن الوطني الياباني، وفي المقابل، تستطيع الولايات المتحدة استعمال اليابان كقاعدة تطلق منها قوتها إلى مختلف أنحاء شبه الجزيرة الكورية، وتهدد الصين، وتمنع أسطول فلاديفوستوك الروسي من دخول المحيط الهادئ.

وهكذا صار بإمكان اليابان، التي تحررت من أعباء تكاليف الدفاع وأي مسؤولية في الحروب الأميركية، التركيز على مهمتها الضخمة، مهمة تعافيها المذهل بعد الحرب العالمية الثانية، والأهم من ذلك أن المظلة النووية الأميركية ضمنت أن أي أمة قد تهاجم اليابان بأسلحة نووية ستواجه الرد من الولايات المتحدة، لكن مدى استعداد الولايات المتحدة في الواقع لخوض تبادل نووي ضخم في حال وجهت الصين أو روسيا ضربة إلى اليابان كان دوماً موضع شك، ولكن بما أن هذا الشك ساور أيضاً المعتدين المحتملين، فقد خدم الهدف منه، علماً أن هذا الهدف نفسي أكثر منه عسكريا.

أدت محادثات هانوي إلى تبديل هذه الضمانة ضمنياً، حيث يشير الموقف الأميركي الجديد إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع القبول ببرنامج نووي كوري شمالي يهدد الأراضي الأميركية، لكن هذا الموقف يعكس ضمناً أنها ترضى ببرنامج يهدد اليابان. صحيح أن المظلة النووية الأميركية ما زالت قائمة نظرياً، إلا أن تردد الولايات المتحدة في الاشتباك يدفعنا إلى التساؤل: هل يردع هذا كوريا الشمالية؟ إذاً، ما زال الرادع النووي الأميركي يحمي اليابان، ولكن هل نستطيع الوثوق بالحارس؟

تقع اليابان في منطقة شائكة، فتسيطر روسيا على جزر تدعي اليابان ملكيتها، صحيح أن هذا لا يمثل خطراً حقيقياً اليوم، إلا أن المستقبل الروسي لطالما كان غامضاً، كذلك تتحدى الصين سيطرة اليابان على جزر في بحر الصين الشرقي وتهدد ببسط نفوذها على غرب المحيط الهادئ، علماً أن هذه المنطقة تخضع راهناً للسيطرة الأميركية. ولم تنسَ الصين أيضاً بعد الاحتلال الياباني والفظائع التي ارتُكبت خلال الحرب الصينية-اليابانية، وعلى نحو مماثل، ما زالت ذكريات الاحتلال الياباني، وانتهاكاته، وإساءاته حية في شبه الجزيرة الكورية. إذاً، إلى جانب واقعها الجيو-سياسي الحالي، تعيش اليابان في منطقة تواجه فيها الكره لأسباب تاريخية.

في هذا الإطار تواصل اليابان صراعها الداخلي بسبب السياسة الدفاعية، وتهدف السياسة اليابانية الحالية إلى بناء قوة كبيرة مع التقليل من قدراتها، زاعمةً أنها لأغراض دفاعية وطنية فحسب، أما البديل فيشمل عمل ثالث أكبر اقتصاد في العالم على تطبيع وضعه الدولي بالتخلي عن الحظر الدستوري للقوات المسلحة (الذي تتجاهله اليابان عموماً اليوم) وإنشاء قوة مسلحة تضاهي عظمته الاقتصادية ومصالحه الاستراتيجية.

يبدو الشعب الياباني عموماً مرتاحاً لاستراتيجيته ما بعد الحرب، ولكن مع تنامي القوة الصينية، والأسلحة النووية الكورية الشمالية، ودولة روسية قد تتصرف بعداء، لا تستطيع اليابان الاستمرار على هذه الحال، ومع ضغط الولايات المتحدة على حلفائها ليحملوا أعباءهم الخاصة، تفقد الاستراتيجية اليابانية فاعليتها تدريجياً، لكن اليابان تعجز عن القيام بتغيير كبير ما لم يقرر الشعب ذلك أولاً، مما يعني أنها ستشهد أزمة سياسية داخلية في هذا الشأن، إلا أن الرأي العام بدأ يتبدل، وسيواجه اليابانيون واقعهم.

يقف وراء كل هذا تغييرٌ محتم في السياسة الخارجية الأميركية يُرى من خلال موقفها من كوريا الشمالية وغيرها وينبع من إخفاق الحروب الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد أدت الحرب الكورية إلى تعادل مكلف، في حين انتهت حرب فيتنام وعلم هانوي يرفرف فوق سايغون، أما حروب العراق وأفغانستان، فأخفقت في تأسيس نظم فاعلة موالية للولايات المتحدة. حروب القرن العشرين الوحيدة التي حققت فيها الولايات المتحدة النصر كانت تلك التي حمل فيها حلفاؤها جزءاً صخماً من العبء، ولم تنتهِ هذه الحروب بطريقة إيجابية إلا عندما لم تشهد احتلالاً أميركياً أو عندما حطمت ضراوة الحرب معنويات العدو وسمحت للولايات المتحدة بإعادة صوغ مجتمعاته. لكن حروباً قليلة تسلك منحى مماثلاً.

أدركتُ بكل وضوح أن الاستراتيجية الأميركية ستتبدل منذ عقد عندما كتبتُ Next Decade (العقد المقبل)، وقد حل هذا التبدل بالفعل، وما يدفع الأمم، والأعداء، والحلفاء إلى إعادة التموضع، وفي آسيا سيحافظ الصينيون والروس على الأرجح على مواقعهم، في حين ستسعى كوريا الشمالية إلى استغلال هذا التبدل قدر المستطاع، ولكن سيكون على اليابان أن تخوض التغيير الأكبر والأشمل.

* جورج فريدمان

* «جيوبوليتيكال فيوتشرز»

الولايات المتحدة قررت قبول كوريا الشمالية كدولة نووية ما دامت أسلحتها لا تستطيع بلوغ الأراضي الأميركية

اليابان قد تتخلى عن الحظر الدستوري لقواتها وإنشاء قوة مسلحة تضاهي عظمتها الاقتصادية ومصالحها الاستراتيجية
back to top