العنبرية «باحة النسيان»

نشر في 08-02-2019
آخر تحديث 08-02-2019 | 00:00
No Image Caption
... سكن الليل، وتنفست الأرض رطوبة الشتاء، وغلف الظلام الوجود تحت سماء رمادية بدت غالبية نجومها، وانسحب قمرها الصغير خجولاً، ومسرعاً، ليتواري خلف الجبال الغربية، وملأ السكون الأودية العميقة بخمرة الصمت العتيق، ولم يعد يسمع غير هسيس النسمة الشمالية الباردة الآتية من بعيد، وأصوات بعض الهوام التي خرجت تبحث عن شيء تأكله، أو عن إلف تستأنس به.

وإلى الشرق، التحمت عتمة السماء بعتمة الأرض لتولد وهجاً ناعماً على شكل خط قصير ذائب الحدود يتماوج لونه بين البرتقالي والأصفر، ويتلاشى ببطء كلما أدخل النوم عيوناً مسهدة إلى راحته.

قرية تغفو على حافة الطريق، لا تهتم بإيقاع الوقت ولا بأسماء الشهور والسنوات، غنية بتاريخها، خفية بآثارها المخبأة تحت أكوام عالية من التراب والصخور، لم تعرف سوى فاتح واحد فتحها وانتهى الأمر، أغفلها الجغرافيون وتناسى أمرها المؤرخون، ولم يرقد فيها سوى قلة من الأولياء الصالحين.

قرية لا يسكنها إلا من يألفها، ويألف طبيعة أهلها، ولا يشتاق إليها إلا من يعرفها، ويعرف عذوبة مائها، تتزاحم بيوتها الطينية فوق التلة الصغيرة، تزاحم حبات الرمان الحمراء تاركة بينها أزقة وحارات ضيقة، تزداد اتساعاً كلما انخفضت إلى الوهاد، لتضيع معالمها بين البيوت والخرب البعيدة المتناثرة، وكأنها كويكبات تائهة تدور في فلك التلة وسط لون من الخضرة المصفرّة، يزداد شحوباً كلما اغتال الجفاف نبتة أو شجرة صغيرة.

لو سئل نعسان الأزهري عن قريته قرية العنبرية لقال كلاماً كثيراً، وربما كان غير مفهوم، فأول ما يؤكده، أن أجداده قد جاؤوا إليها كتجار لاحقين بحملة الظاهر بيبرس في مطلع القرن الثالث عشر، وليتوسع بعدها ملياً بعلاقة عائلته بزوجة الملك الظاهر، ولو ترك لنعسان الكلام على راحته فإنه يروي قصة الملك الظاهر كلها، ويسترسل في وصف حروبه ومعاركه؛ ليعود بعدها إلى العنبرية، ويحكي قصصاً متباعدة متناقضة، يمتزج فيها الواقع بالخيال، ولا يجمع بينها أي شيء سوى خروجها من فم واحد. قصص تشترك بمعظم تفاصيلها مع قصص القرى المجاورة، وإن اختلفت الشخصيات والمواسم في حالة من التواتر العكسي للزمن لتصل بعض القصص إلى أيام آدم وقد تزيد قليلاً.

لا يغفل نعسان في حديثه عن ذكر الأوقات والفصول، فيسميها أسماء مميزة، «سنة الحريق»، «سنة الصقيع»، «سنة السيل» أو أسماء أخرى تبدو للوهلة الأولى بلا معنى، «سنة السفر برلك»، «سنة اللي انقتل رجب، ولكنها ومن كثرة تكرارها أصبحت تحمل دلالات خفية وعميقة، ويحدث أحياناً أن يكون للسنة الواحدة أكثر من اسم واحد، بينما تكون سنوات أخرى غيرها خرساء أو صماء، لكن نعسان لديه من الفطنة والنباهة ما يمكنه من اختراع الأسماء في لحظة الحاجة إليها، وملء فراغ الأحداث الضائعة من خياله، وخصوصاً عندما يكون المستمعون إليه من الشباب أو صغار السن، وهو دائماً يختار لقصصه نهاية واحدة لا تتغير «الله يرحمهن كلهن ماتوا»، «ما بقي حدا» ولو سأله أحد الحاضرين بمكر: «وكيف ماتوا يا أبو عبد الله..؟» فإنه يخفي مفاجأته ببراعة، وينقّل نظراته بسرعة هاربة مذعورة في وجوه من حوله، وغالباً ما يغير أيضاً وضعية جلوسه، وتتداخل ملامحه المتنافرة لتتجمع في مركز الوجه العتيق، ويقول بسخرية متشنجة «كيف ماتوا يعني! ماتوا وشبعوا موت!!»، ويغيب صوته لحظة ليعود بعدها بلهجة آمرة لكنها ودودة «شربوا... شربوا... شاي» ويغرق في نفسه مفكراً ومتسائلاً ترى كم أخطأ؟ وكم أصاب؟ وعيناه تطاردان ظلال الضحكات المخنوقة والابتسامات الخفية في وجوه من حوله...

يتدلى رأس الأزهري المدور فوق بدنه الطويل كشجرة الحور والمشدود كالوتر تدلي أقراص عباد الشمس الناضجة فوق عيدانها الرفيعة. وتبرز من صفحة وجهه المغطى ببذور الجدري عينان خضراوان مفتوحتان بتساؤل دائم وأنف محدب ذو فتحتين ضيقتين مشدودتين وفم مائل قليلاً إلى اليسار مع شفتين غير متجانستي الحافتين تضفيان على الوجه القبيح سمة من اللؤم والقسوة.

لم يترك الأزهري خلال حياته عملاً لم يعمل به أو حرفة لم يطلع عليها، فرغم أنه ورث عن أبيه الحدادة والنفخ بالكير، فإنه كره هذه الصنعة في سن مبكرة، وانطلق إلى تخوم البادية الشرقية ليقضي مراهقته وبواكير شبابه في الرعي وتربية الأغنام، وهو يقول لكل من ينقل إليه غضب أبيه وعباراته الساخطة عليه: «يا أخي الأنبياء عليهم السلام كانوا رعاة غنم...»، ولتسري بعدها في العنبرية إشاعات تقول: إن الأزهري يدّعي النبوة، ويتلقى وحياً من السماء، ويحمل عصاه يرسم بها أشكالاً غريبة في التراب، فأصيب أبوه بنوبة عصبية أقرب إلى الجنون، جعلت منه نصف رجل يحمل نصفه الآخر، لكن الأزهري عاد وباع أغنامه فلمعت بارقة أمل في نفس الأب المشلول بعودة ابنه الضال قبل أن يعرف بانتقاله للعمل في الزراعة.

كانت الزراعة حقلاً واسعاً لتجارب الأزهري، فجلب من أماكن بعيدة وربما غير معروفة بذوراً ودرنات لم تعرفها التلة من قبل، ولأول مرة كان أهل العنبرية يرون تلك القطع الطينية المغبرة، والحليبية الجوف تزرع في أرضهم، ومن دون أن يعلموا إلا بعد موسم أو موسمين أن اسمها بطاطا وأنها لا تؤكل نيئة. وفي ذلك الوقت، وعندما بدأت تصل إلى العنبرية رسائل من بلاد بعيدة اسمها الأرجنتين، وحكت الأوراق البالية التي قطعت تلك المسافات البعيدة عن نوم أهل تلك البلاد في العسل، فإن هاجساً غريباً ملأ كيان الأزهري، كان هاجساً غريباً وأقرب إلى الجنون فركب دابته ومضى، وإن اختلف الناس في العنبرية في عدد السنوات التي غابها الأزهري، فإنهم أشد اختلافاً حول البلدان التي زارها أو مر بها، فقال بعضهم: إنه وصل إلى مصر، وقال آخرون: إلى الخليج العربي، أو ربما إلى الهند! لكنهم جميعاً متفقون على أن الأزهري عاد إلى التلة بعد وفاة أبيه بوقت قصير، وأنه عاد إليها أكثر فقراً من ذي قبل وبحرفة جديدة هي البناء، لكن عندما أوكل إليه حسن شوكة أن يبني له بيتاً جديداً فإن ما صنعه الأزهري لم يكن يختلف عن بقية الببوت في العنبرية وإن بدا أسوأ بقليل.

وفي تلك الأثناء وصل إلى العنبرية مولد كهرباء يعمل بالمازوت، ووضع في الخان الشرقي ليشغل ساعة أو ساعتين بعد الغروب، ويوقف في النهار، فأصبح الأزهري فجأة المختص بمد تلك الأسلاك الحمراء والسوداء بين الحارات وفوق الأزقة وأسطح المنازل، فيمررها عبر ثقوب يفتحها بمهارة في الجدران الطينية أو في الشبابيك وقوالب الأبواب مستفيداً من طول قامته ومن أدواته البسيطة، فكان أهل الدار يحصلون في غرفة أو غرفتين على تلك الشمس الصناعية بضوئها الأصفر الباهت، لكن الأزهري كان غالباً ما يتقاضى ضعف المبلغ المتفق عليه متذرعاً بحجج كثيرة، فيقول إن المسافة من الخان كانت طويلة، وإنه استهلك من الأسلاك أكثر مما توقع وإنه كاد (يتكهرب) مرة أو مرتين.

back to top