لخوف ألمانيا من اتحاد أوروبي بلا بريطانيا سبب وجيه

نشر في 30-01-2019
آخر تحديث 30-01-2019 | 00:00
 نيو ستاتسمان كُتبت أفضل رواية عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل أكثر من خمسين سنة بقليل، جاء فيها أن جون لو كاريه ربما استخدم رغبة بريطانيا الشديدة في الانضمام إلى المجتمع الاقتصادي الأوروبي كمحور لحبكة رواية A Small Town in Germany (بلدة صغيرة في ألمانيا). في هذه الرواية، يهدد "بطاقةَ دخول" بريطانيا إلى المجتمع الاقتصادي الأوروبي موظفٌ ألماني قليل الشأن في السفارة البريطانية في بون سرق "أسراراً"، إذا كُشفت، قد تثير استياء ألمانيا الغربية وتدفعها إلى عرقلة انضمام بريطانيا بسبب انعدام الثقة بها.

أدرك لو كاريه سياساته الألمانية جيداً. حتى بعد خروج شارل ديغول من الصورة وانضمام بريطانيا إلى المجتمع الاقتصادي الأوروبي في عام 1973، لم تثق الحكومات الألمانية المتعاقبة بالكامل بدوافع بريطانيا إلى هذه الخطوة، إذ اعتبر السياسيون الألمان أن المسألة لا تتمحور حول ما إذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحدث أم لا بقدر تحورها حول هوية الحزب الذي سيقود هذا الخروج. فخلال عهد جون مايجور أولاً ومن ثم توني بلير، رفضت المملكة المتحدة الانضمام إلى اليورو وتخلفت في مشروع الاندماج. إذاً، حملت كل حكومة بريطانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في تركيبتها.

لكن السؤال الأكثر أهمية يبقى: ماذا تعني أوروبا من دون بريطانيا بالنسبة إلى ألمانيا؟ يعتقد البعض أنها ستكون أفضل حالاً. يكتب هيرفريد مونكلر، أحد كبار الاستراتيجيين القلائل في ألمانيا: "سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى استقرار هذا الاتحاد لا زعزعته، وسيتباطأ التآكل الداخلي، وترى اليوم الدول الأخرى التي تفكر في الخروج مدى خطورة هذه الخطوة، فاتفق مؤيدو خروج بريطانيا على مسألة الانسحاب، ومن السهل نشر جو عام مناهض لبروكسل، إلا أن ذلك لا يؤدي تلقائياً إلى سياسة فعلية".

يعتبر مونكلر أن ألمانيا بلد فقد منذ زمن بعيد حبه للمراهنات السياسية على أمثال كاميرون، وبات حكامه أكثر مسؤولية لأنهم يتنبهون للتاريخ (لا يستطيعون تحمل حتى حكومة أقلية لأنها تشبه حكومة فايمار إلى حد كبير) ولأنهم يدركون أيضاً أن الاتحاد الأوروبي سينهار إذا ارتكبت برلين حماقة بهذا الحجم. رغم ذلك، نشعر اليوم أن النقاش السياسي في برلين عن مستقبل أوروبا خسر الكثير من معناه. يُنادى راهناً بتشكيل جيش أوروبي على اعتبار أن هذا ما يفرضه المنطق، بيد أن الجميع يعرفون أن هذه الخطوة لن تبصر النور.

منذ الأزمة السياسية التي نشأت بسبب الهجرة في عام 2015، حاولت الحكومات الوسطية في أوروبا التخفيف من المخاوف المناهضة للهجرة التي تملكت مَن يسعون إلى السير على خطى بريطانيا والخروج من الاتحاد الأوروبي. لم تقتصر نتائج هذه المحاولة على مكاسب مادية كبيرة جنتها أنقرة وعدد من الدول الإفريقية بغية إبقاء المهاجرين بعيدين عن أوروبا، بل ولّدت أيضاً استراتيجيات مبتكرة جديدة هدفت إلى إغلاق القارة. ففي شهر نوفمبر الماضي، افتتحت القوات المسلحة الألمانية قاعدة في النيجر، منضمةً بذلك إلى الجهود التي تبذلها إيطاليا وفرنسا بغية منع الهجرة من منشئها. في الوقت عينه، أدى نشر ألمانيا التقشف في القارة إلى تراجع استقرار الحياة فيها، مما عزز بالتالي الحساسية السياسية تجاه الهجرة التي جعلت عمليات نشر الجنود هذه في إفريقيا تبدو بالغة الأهمية في المقام الأول.

يدور كابوس الأوروبيين الوسطيين حول رؤية مايكل هاردت وأنطونيو نيغري القديمة: نزوح المهاجرين بأعداد كبيرة إلى الدول الثرية، حيث تنهار الأنظمة الهرمية القديمة وتنشأ الحاجة إلى بناء سياسات جديدة. ربما يغالي اليمين والوسط في ارتيابهما، إلا أن الرؤية الفوضوية-اليسارية عن تحرير اللاجئين أوروبا من الرأسمالية ما زالت على الأرجح بعيدة الاحتمال: على سبيل المثال، سيبقى معظم المهاجرين الذين يرغبون في الخروج من إفريقيا أكثر فقراً من أن ينجحوا في السفر إلى أوروبا خلال العقود المقبلة، ويبدو أن سياسة أوروبا التجارية عاقدة العزم على إبقاء الوضع على حاله.

إذاً، ثمة مفارقة واضحة في خروجٍ بريطاني من الاتحاد الأوروبي حفزته الهجرة في وقت بذل فيه الألمان قصارى جهدهم لتبديد هذا الخوف. تشمل أيضاً أوجه هذا الخروج الغريبة بالنسبة إلى الألمان طبيعة حروب النخبة في بريطانيا، التي قلما نراها في غرف السياسة الألمانية الهادئة حيث يسود الإجماع. يعود هذا في جزء منه إلى أن الطبقة الحاكمة الألمانية زالت بمعظمها خلال الحرب العالمية الثانية ولم ينجح مَن نجوا منها في كسب ولاء سياسي يُذكر. ما من نظير للمجموعة القديمة التي تخرجت من جامعة إيتون، ويأتي القادة عشوائياً من خلفيات متنوعة: كان غيرهارد شرودر ابن امرأة تعمل في مجال التنظيف. أما ميركل فهي ابنة رجل دين. وكما تذكر إحدى الشخصيات في رواية A Small Town، "في ألمانيا، ينتمون كلهم إلى الطبقة الوسطى".

في القارة الأوروبية الكثيرة التقلبات، التي لم تنقرض فيها الاشتراكية الفرنسية على الأرجح في حين زالت الاشتراكية البريطانية في الغالب، تقوم العقول الألمانية الهادئة بحساباتها: لكم من الوقت يستطيعون إبقاء أوروبا على حالها وجعل رحيل بريطانيا يبدو مجرد عقبة صغيرة في طريقة العودة إلى الوضع الذي كان قائماً؟

* توماس ميناي

* «نيو ستايتسمان»

back to top