«الأفغاني»... والمناهج الشيعية

نشر في 24-01-2019
آخر تحديث 24-01-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر لم يكن الداعية والسياسي الإسلامي جمال الدين الأفغاني (1839-1897) أفغانياً إلا بالشهرة، أما مولده ونشأته فكانا في إيران، وقد قام كل من صادق نشأت وعبدالنعيم حسنين الأستاذين في مجال الأدب الفارسي في مصر بترجمة كتاب وضعه ابن أخت جمال الدين عن خاله "الأفغاني" ونشراه في مقدمة وملاحق عام 1957 بالقاهرة.

يقول المترجمان: "إن تلقيب جمال الدين بالأفغاني قد راج حتى غطى على الحقيقة التي تثبتها الدراسة والأدلة المادية الملموسة، وهي أن جمال الدين إيراني صريح النسب". ويضيف الأستاذان نشأت وحسنين "أن الشواهد التي تثبت أن جمال الدين إيراني من الكثرة والوضوح بحيث يشغل تسجيلها حيزا كبيرا"، ويوردان أهمها:

أول الأدلة، يقولان في المقدمة، إن جمال الدين لو كان أفغانياً لبقيت عائلته أو نفر قليل منها في أفغانستان، فهل توجد في أفغانستان بقية من عائلة جمال الدين؟ الأفغان يجيبون بالنفي لأن بقايا عائلة جمال الدين الأفغاني موجودة في إيران، فالزائر لقرية "أسد أباد" القريبة من همدان بإيران يجد بقية أسرة جمال الدين تسكن في حي "السادة" وتسمى بالفارسية "سيدان"، وهي صيغة فارسية معروفة للجمع بإضافة الألف والنون لكلمة "سيد".

ويقول المترجمان: "الحقيقة هي أن جمال الدين كان إيرانيا من أسد أباد بالقرب من همدان، وكان شيعيا جعفري المذهب، ولم يكن أفغانيا من أسد أباد من قرى "كنر" من أعمال كابول بأفغانستان، كما لم يكن سنياً حنفي المذهب".

وتعرف أسرة جمال الدين في إيران بالأسرة الجمالية، وفيها شخصيات مشهورة في المنطقة، كما يجد الزائر مدرسة باسم المدرسة الجمالية أنشأتها وزارة المعارف الإيرانية في أسد أباد مسقط رأس جمال الدين وسمتها باسمه تخليدا لذكراه وتمجيداً له.

كان انتساب جمال الدين إلى أفغانستان يقول المترجمان، لهدف "فقد وجد أن انتسابه إلى الأفغان ييسر مهمته في العالم السني، وخشي أن يؤدي كونه إيرانيا إلى وضع العراقيل في طريقه، ويحول دون نشر دعوته خصوصا في العصر الذي كان يعيش فيه، فقد كان التعصب المذهبي على أشده، وكان يكفي أن يعرف الناس في العالم السني أن جمال الدين إيراني فينصرفوا عنه مهما كانت دعوته، ومهما كان ما أوتيه من علم ومنطق".

ومن المفارقات أن ما يقوله المترجمان عن الانتساب لإيران لا يزال صحيحا ومؤثرا في بعض الدول والمناطق والدعوات.

اختار جمال الدين لقب الأفغاني رغم أن المصادر والكتب الإيرانية كانت تسميه ولا تزال جمال الدين أسد أبادي "لأن أفغانستان مجاورة لإيران من ناحية وتشترك معها في اللغة والدين، كما أن جمال الدين عاش في أفغانستان بضع سنين، وألّف كتابا سماه "تاريخ الأفغان"، ولقب في أثناء إقامته بالأفغاني، وكان مكروهاً من حكام إيران وعلى رأسهم ناصر الدين شاه، فكانت الظروف المحيطة به والأهداف التي يرمي إليها تحتم جميعها أن يختار جمال الدين لقب "الأفغاني" دون غيره".

يقول مؤلف الكتاب، ابن أخت جمال الدين، إن جدّ الأسرة قد توطن في أسد أباد منذ سنة 673 هجرية- 1274م ويضيف ابن الأخت، واسمه ميرزا لطف الله خان، عن أسلاف السيد جمال الدين الأفغاني إن أسماء آبائه وأجداده، عُرفت خلفاً بعد سلف ونسلاً بعد نسل من بعض الكتابات الموجودة، وخصوصاً من ألواح قبور أجداده التي تقع بجوار قبر الإمام زاده أحمد في "حي سيدان"، وكان آباؤه وأجداده من السادات جليلي القدر عظيمي الشأن.

ويحمل لقب "سيد" لدى الشيعة كل من يعتبره المجتمع منحدراً عن البيت النبوي وآل البيت، وبخاصة من ينتسب منهم إلى الإمام الحسين بن علي، ويسمون "الحسينيين" كما كان الأفغاني يلقب نفسه.

وإذا كان ما يدعيه السيد جمال الدين صحيحاً وأنه يعود في نسبه إلى بني هاشم وقريش فهذا يعني أنه عربي في أصله، فلا هو بالأفغاني ولا الإيراني أو الفارسي.

ثاني أدلة مترجمي الكتاب عن الأفغاني كما ورد في مقدمته التي نعرضها هو اسم والد جمال الدين! يقول المترجمان: "إن المتأمل قليلا في اسم والد جمال الدين، وهو "صَفدُر" يستطيع أن يقطع بأنه إيراني شيعي، فهذا الاسم لا يخلو من الدلالة على أصل جمال الدين الإيراني ومذهبه الشيعي لأن اسم "صفدر" مركب من كلمتين هما "صف" العربية و"دُر" الفارسية التي معناها "ممزِّق" أو "مفرَّق"، ومعنى هذا الاسم "ممزق صفوف الأعداء في ميدان القتال"، وقد أسند الإيرانيون هذه الصفة إلى علي بن أبي طالب، ولقبوه بهذا اللقب نظراً لما كان يبديه في الحروب من بسالة عجيبة ضد المشركين". (ص11).

ولكن ألا يستخدم الأفغان في بلادهم الكلمة نفسها كاصطلاح ديني مثلا؟ يقول المترجمان: "لا يوجد لاسم "صفدر" مسمى في أفغانستان رغم أن لغتها هي الفارسية، كما لا يوجد له مسمى في أي بلد سني آخر، فهو لا يوجد إلا بين الشيعة، وهذا مما يرجح أن جمال الدين إيراني شيعي وليس أفغانياً سنياً".

في ثالث أدلة مقدمة الكتاب حول أصل الأفغاني في استدلال الكاتبين، يقولان: "إن المتتبع لنشأة جمال الدين وأسلوب تحصيله للعلوم المختلفة يستطيع أن يدرك، في سهولة ووضوح، أنه شيعي إيراني، فقد احتذى حذو الشيعة في دراساته".

فقد ظل حتى العاشرة في المنزل منشغلاً بحفظ القرآن الكريم وتعلم العربية على يد والده، ثم التحق بإحدى مدارس قزوين عام 1264هـ مع والده الذي كان يعمل مدرسا فيها، فمكث فيها عامين، سافر بعدها إلى طهران ليتتلمذ على "آقاسيد صادق"، أكبر علماء الشيعة في طهران في ذلك الوقت، ثم انتقل جمال الدين بعد ذلك إلى النجف، بالعراق، وهو البلد الذي كان ولا يزال موطن العلم والعلماء في نظر الشيعة ومركز الدراسات العليا في المذهب الشيعي وبخاصة لمن يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد، وقد أقام جمال الدين في مدينة النجف أربع سنوات تتلمذ فيها على يد الشيخ مرتضى الأنصاري.

ويستحق تتلمذ الأفغاني على يد الشيخ الأنصاري، وهو من أبرز مجتهدي الشيعة في العصور الحديثة، بعض الشرح الذي لم يرد في مقدمة المترجمين، حيث كان الشيخ الأنصاري من أشد معارضي خلط الدين بالسياسة بعكس الأفغاني الذي يعد بحق مؤسس "التيار الإسلامي" الحديث، ورائداً من رواد تسييس الدين، وكذلك استخدام الاغتيال في هذا التيار كما سنرى.

تحدثت في كتاب "العمامة والصولجان" عن الشيخ الأنصاري ص 132، حيث ورد فيه ما يلي: "الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري (1799- 1864) من مواليد دزقول بإيران والمقيم في النجف بالعراق، فصار بذلك مرجع التقليد الأوحد لكل الشيعة الاثني عشرية.

انحدر شيخ الطائفة المجتهد المجدد الأنصاري من نسل جابر بن عبدالله الأنصاري، وبلغ مكانة رفيعة في مجال علم أصول الفقه حتى اعتبر كل من جاء بعده من شراح كُتبه وأُسسه التي وضعها في هذا المجال، فكان بذلك أبرز مجتهدي الشيعة الأصولية منذ وفاة "وحيد البهبهاني".

اشتهر الأنصاري بالورع الشديد والزهد في المظاهر والتثبت الشديد قبل إصدار الفتوى، وقد بلغ عدد الذين نالوا على يديه إجازة الاجتهاد أكثر من 300 نفر".

ويقول الباحثون في الاجتهاد وتاريخ المجتهدين الشيعة إنه "بالرغم من مكانته الفقهية والاجتهادية الرفيعة وضخامة حجم الأموال المنحدرة إليه من الزكاة والخُمس والصدقات، حيث كان يوزع منها نحو 200 ألف تومان سنويا فإنه كان عزوفا عن استغلال منصبه أو الانغماس في العمل السياسي، كما كان على علاقة طيبة بالشاه، وبلغ انصرافه عن التأثير في الأحداث السياسية لعصره أنه رفض حتى تكفير أتباع مذهب البابية أو تأييد حملات القمع والتنكيل ضدهم، مؤكداً أنه لم يطلع بالقدر الكافي على عقائدهم".

(العمامة والصولجان، الكويت 1997، ص132).

يقول مترجما الكتاب صادق نشأت وعبدالنعيم حسنين عن الدراسة في الكليات الدينية الشيعية إن ما تمتاز به الدراسات الدينية في المذهب الشيعي اهتمامها بالعلوم الفلسفية والتوسع في دراسة المنطق وعلم الكلام إلى جانب الفقه وعلم الأصول. ويضيفان: "وهذا النوع من الدراسة يهب الدارس قوة في الجدل والاستدلال وقدرة على البحث والنقاش والتلاعب بالألفاظ ومدلولاتها، بحيث تتفق ورغبات الدارس وتخدم أغراضه وهو يجادل خصمه". ثم يقولان: "ولا توجد هذه الدراسة عند علماء أهل السنة الذين يقتصرون في دراستهم على الفقه وأصول الفقه، مع توسع ملحوظ في الحديث والتفسير واللغة العربية والأدب".

(جمال الدين الأسد أبادي المعروف بالأفغاني، كما يقدمه ابن أخته، ميرزا لطف الله خان، 1957. ص13).

ويرى المترجمان "أن المتأمل في الطريقة التي اتبعها جمال الدين في تحصيله ليدرك بسهولة أنه شيعي وأنه يسلك مسلك الشيعة في الدراسة، وأن هذه الطريقة التي اتبعها جمال الدين في دراسته، وهذا اللون الذي تميزت به ثقافته لدليل قوي على أنه إيراني شيعي وليس أفغانياً سنياً".

أحدث الأفغاني كما يبدو بمنهجة الشيعي في الدراسة الدينية، ثورة تجديد في الأوساط العربية السنية، كما يرى المترجمان ويقولان: "وقد كانت دراسة جمال الدين على الطريقة الشيعية مما جعل قوته في الحكمة والمنطق وعلم الجدل من الظواهر التي لفتت إليه الأنظار في الأوساط العلمية في مصر وتركيا، فوجد فيه طلاب العلم لونا جديداً لم يألفوه من قبل، فمالت إليه أفئدتهم، والتفوا حوله وافتخروا بالتتلمذ على يديه- ومن هؤلاء محمد عبده وسعد زغلول- ولم يجدوا في التتلمذ عليه- سواء أكانوا من طلاب العلم أو من رجال الأزهر- حطاً من قدرهم رغم ما كانت تمتاز به مصر من علو كعب في الدراسات الدينية بالذات". (ص13).

ويورد المترجمان أدلة أخرى نعرضها لاحقا!

back to top