الهجرة غرباً

نشر في 18-01-2019
آخر تحديث 18-01-2019 | 00:00
No Image Caption
في مدينة تئن تحت عبء اللاجئين لكنها ما زالت تحتفظ ببعض من حالة السلم، التقى شاب بشابّة في أحد الصفوف من غير أن يكلّمها. التقاها لأيّام وأيّام. كان اسمه سعيداً وكان اسمها ناديا. هو ملتحٍ، إنما لم تكن لحية متروكة بالكامل، بل لحية يشذّبها بعناية. وهي تتّشح من أخمص قدميها حتى طرف عنقها بفستان أسود فضفاض. في تلك الفترة، كان الناس ما زالوا قادرين إلى حدّ ما على الاستمتاع بنعمة ارتداء ما يشاؤون، سواء لجهة الملبس أو لجهة غطاء الشعر، ضمن بعض القيود المحدّدة، لذا لم تكن هذه الخيارات بلا أيّ دلالة.

قد يبدو غريباً في مدنٍ تترنّح على حافة الهاوية، أن يواصل الشباب ارتيادهم قاعات الدرس- وفي هذه الحالة كان صفاً مسائياً حول الهوية المؤسّسيّة والعلامة التجاريّة- لكن هكذا هي الحال، في المدن كما في الحياة، نتسكّع مرة بينما نقوم بمهمّاتنا المعهودة ونموت مرة أخرى، فلا تضع نهايتنا الوشيكة الأبديّة حداً لبداياتنا ومراحلنا النصفيّة العابرة إلى أن يأذن الأجل بذلك.

لاحظ سعيد أن لناديا علامة حُسن على رقبتها، هي عبارة عن علامة بيضاوية الشكل سمراء تتحرّك أحياناً، وليس كل الوقت، كلّما تحرّك نبضها.

ولم ينتظر سعيد طويلاً بعد أن لاحظ ذلك، فتكلّم مع ناديا للمرة الأولى. لم تكن مدينتهما قد اختبرت بعد أي قتال ملحوظ، بل بضع مناوشات وتفجير لسيارة مفخّخة تردّد صدى انفجارها في صدر الفرد كما الموجة التي تصدرها مكبّرات صوت ضخمة في الحفلات الموسيقيّة، بينما كان سعيد وناديا يوضّبان كتبهما ويخرجان من الصف.

استدار على السلالم وسألها:

«اسمعي، هل تودّين تناول القهوة»، وأضاف بعد هنيهة من الزمن في محاولة منه لجعل الوضع يبدو أقل جرأة نظراً لزيّها المحافظ: «في الكافيتيريا».

حدّقت ناديا في عينيه مباشرة. وسألته: «ألا تؤدي فريضة العِشا؟»

فما كان من سعيد إلا أن استحضر أكثر ابتسامة محببة له مجيباً: «لسوء الحظ، ليس دائماً».

لكن تعابيرها لم تتغيّر. فواظب في مسعاه، متمسّكاً بابتسامته وملامح اليأس التي تعتري متسلّق جبال بائس تتصاعد: «أعتقد بأنها مسألة شخصيّة. لكلّ منّا طريقته الخاصّة. أو... طريقتها الخاصّة. ما من أحد كامل. وفي كلّ الأحوال..»..

قاطعته قائلة: «أنا لا أصلّي». وواصلت التحديق به بثبات. ثم أضافت: «لربما في مرّة أخرى».

راح يتأمّلها بينما تخرج إلى مرآب الطلّاب. وهناك، بدل أن تغطي رأسها بوشاح أسود، كما كان يتوقّع، رآها تعتمر خوذة سوداء كانت مربوطة بدرّاجة ناريّة قديمة بقوّة حوالي 100 سي سي، فتسوّي حافة الخوذة لتحمي عينيها، وتمتطي درّاجتها، وتنطلق، متلاشية في قرقرة منتظمة داخل الغسق المتنامي.

في اليوم التالي، وجد سعيد نفسه وهو في عمله عاجزاً عن التوقّف عن التفكير بناديا. كان سعيد يعمل في وكالة متخصّصة بتركيب الإعلانات الخارجيّة، إذ تملك لوحات إعلانية في أرجاء المدينة كلّها، وتستأجر لوحات أخرى، وتبرم صفقات لمساحات إضافيّة مثل خطوط الباصّات والمدرّجات الرياضيّة وواجهات المباني الشاهقة.

كانت الوكالة تشغل طابقين في منزل تمّ تحويله ليضمّ أكثر من عشرة موظّفين، وكان سعيد من بين أصغرهم سناً. لكن ربّ عمله أحبّه فكلفه بتولّي أمر شركة صابون محلّية موضحاً أنه يجب إرسال عرض للشركة قبل الساعة الخامسة.

في الحالات الطبيعيّة، اعتاد سعيد أن يلجأ إلى القيام بأبحاث كثيرة على الشبكة الإلكترونية ليكون العرض على مقاس العميل قدر المستطاع. فغالباً ما كرّر مديره على مسمعه «ليست بالقصّة إذا ما فشلت في شدّ الجمهور». ما يعني بالنسبة إلى سعيد أن مهمته هي إقناع العميل أن شركته فهمت فعلاً فحوى أعماله، وتستطيع أن ترتدي عباءته وترى الأمور من وجهة نظره.

لكن اليوم، على الرغم من أهميّة المهمّة لا بل إن كلّ مهمة بالغة الأهمية- فالاقتصاد في ركود نتيجة الاضطرابات المتزايدة، وإحدى أولى الأكلاف التي يبدو أن العملاء يسعون إلى خفضها هي الإعلانات - إلّا أن سعيداً عاجز عن التركيز. كان ينظر إلى شجرة ضخمة مورقة وغير مشذّبة ارتفعت من مساحة العشب الصغيرة التي تفترش خلفية مقرّ الشركة، فحجبت الشمس، وهو ما حوّل العشب الخلفي إلى أوساخ وخيوط عشب هزيلة، تتداخل فيها أعقاب سجائر الصباح، ذلك إن مديره منع الموظفين من التدخين في داخل المبنى. فرصد سعيد على قمّة هذه الشجرة صقراً يبني عشاً له. كان الصقر يعمل بلا كلل. أحياناً راح يطوف على مستوى العين، كما لو أنه يقف ثابتاً في مهبّ الريح، قبل أن ينحرف بأدنى حركة من جانحه أو حتى بطرفة ريش منه.

كان سعيد يفكّر بناديا ويراقب الصقر شارداً عن عمله.

وعندما أحس بأن الوقت يداهمه، سارع إلى إعداد العرض، ناسخاً ما أمكنه من عروض أعدّها سابقاً. ومن بين الصور التي اختارها كانت صور قليلة منها تمتّ إلى عالم الصابون بصلة.

حمل نسخة من العروض إلى مديره وكبت توتراً تملّكه بينما يقدّم إليه الملف.

لكن مديره بدا مهموماً فلم يلحظ أي عيب. بل دوّن بضع ملاحظات طفيفة على المطبوعات وردّها إلى سعيد بابتسامة كئيبة قائلا:

«أرسلها».

شيء ما في تعبيره جعل سعيداً يشعر بالأسى عليه. وتمنى لو أنه قدّم له عملاً أفضل.

وبينما قام عميل سعيد بتنزيل الرسالة الإلكترونية وقراءتها، هناك في أقصى أقاصي أستراليا خلدت سيدة شاحبة البشرة إلى النوم وحيدة في حيّ سوري هيلز في سيدني، فيما ذهب زوجها في رحلة عمل إلى بيرث. ارتدت السيدة قميصاً طويلاً، يعود إليه، وخاتم الزواج. وغطّت جسمها وساقها اليسرى بغطاء أكثر شحوباً منها؛ وعلى كاحلها الأيمن، علّق على طرف عقب أخيل، وشم أزرق لطائر أسطوريّ صغير.

منزلها مزوّد بجهاز إنذار، لكن لا يتم تشغيل الجهاز. فقد وضعه سكاّن سابقون، آخرون اعتبروا هذا المكان بيتاً، قبل أن تصل الظاهرة المسماة إعادة التأهيل وتعمل على تأهيل هذا الحيّ ليصل إلى ما وصل إليه الآن، فلم تعد السيّدة النائمة تستخدم جهاز الإنذار إلا لماماً، لا سيّما عندما يكون زوجها غائباً. لكنّها نسيت أن تشغّله هذه الليلة، وكانت نافذة غرفة نومها التي ترتفع أربعة أمتار عن الأرض غير مقفلة. كانت مشقوقة ليس إلّا.

في درج الطاولة المجاورة للسرير علبة نصف ممتلئة من حبوب منع الحمل، تناولتها للمرة الأخيرة منذ ثلاثة أشهر، عندما كانت لا تزال هي وزوجها يحرصان على ألّا ينجبا، بالإضافة إلى جوازات سفر ودفاتر شيكات وإيصالات وعملات معدنية ومفاتيح وزوج أصفاد وعيدان علكة مغلّفة بالورق.

باب خزانتها مفتوح. وفي غرفتها يتوهّج شاحن جهاز الكومبيوتر الخاص بها والمسيّر اللاسلكي، لكن الممرّ نحو الخزانة مظلم، بل أكثر ظلمة من الليل.

back to top