زهور فان غوخ

نشر في 08-12-2018
آخر تحديث 08-12-2018 | 00:00
No Image Caption
مكّة المكرّمة، 20/ 8/ 2003

ما هذا النهار الحارّ؟

الشمس في عرشها البعيد الا ترحم أحداً. لا بشراً ولا حجراً. ترسل أنفاسها الساخنة غير آبهةٍ يتأفّف المتأففين، ولا بزفرات الحانقين. لكنّ هذا اليوم لا يشبه ما فات من الأيام السابقة، كأنّها غاضبةٌ منّا، تعاقبنا بحرّها وسمومها منذ بزوغها حتّى قبيل أفولها للمغيب.

ثمّ...

جاء هاتفه في وقت غير ملائم!

تلقيت اتّصاله الهاتفيّ منذ دقائق. يطلب منّي مرافقته إلى سوق الحراج . كان بإمكاني الاعتذار من هذا المشوار. ما لي وللحراج وزحامه وروائحه في هذه الأيام الحارّة؟

كانت عبارة الانسحاب من هذا المشوار على طرف لساني. كدت أقولها، ولكنّه عاجلني:

- أنا لا أعرف أحداً سواك في مكّة، أرجوك ساعدني.

قبلت المساعدة وأنا أتصنّع رغبةً جارفةً بصوتي، ثمّ أنهينا المكالمة.

قلت في نفسي: هو في آخر الأمر زميل عزيز.

منذ ثلاثة أشهر انتقل إلى مكة قادماً من إحدى مناطق البلاد ليعمل في قسم الصيانة في شركة من شركات السيّارات . كنّا نعمل في مكان واحد. أغلبنا يعتبر هذا عملاً مؤقتاً بانتظار العمل الحكومي الأكثر أماناً ودخلاً أيضاً. كنا نشترك معاً في هذه النقطة وهي رفض الحياة الرخوة والهشّة. أبدى تميّزاً في عمله. تخرّج في الجامعة من قسم العلوم السياسيّة، وفوجئ بأنّ تخصّصه لا يوجد له طلبٌ في سوق العمل. كان يتقن اللغة الإنكليزيّة تحدّثاً وكتابةً، ما جعلنا - نحن زملاءه - نتوقّع له مستقبلاً باهراً، ولكن ليس في شركة للسيّارات. لكنّه أخبرنا بأنّ النجاح في الحياة لا يأتي دفعةً واحدةً، وأنّ على المرء عدم انتظار الفرص، بل صناعتها إذا تمكّن من ذلك.

أبهرنا منطقه في الحديث: وترتيب الرؤى والأفكار والكلمات في عقله قبل قولها على مسامعنا. أخبرنا بأنّه لا يقبل أن يكون عالةً على أسرته رغم أنّ أسرته ميسورة الحال. يريد أن يعمل ليستقلّ بذاته، ليشعر بكيانه، فاليد التي لا تعمل تعتبر يداً نجسة، كما كان يردد.

كان يعيد الكثير من هذا الكلام الذي بدا لنا أنّه - بسبب تكراره على أسماعنا - مؤمنٌ به أشدّ الإيمان، وليس مجرّد عبارات للاستهلاك فقط. كان يريد من الذهاب إلى الحراج تأثيث بيته قبل أن يأتي بزوجته لكي تقيم معه في مكّة. وقد اختارني، عن بقيّة الزملاء، لأساعده في هذه المهمّة. كدت أن أقول له من الأفضل أن يأتي بزوجته وتشاركه في اختيار الأثاث، فلربما كانت لديها أفكارٌ وذوقٌ يختلف عنّا، ولكنني تراجعت في نهاية الأمر بعد أن تذكّرت أنّها ليست معه في مكّة في الوقت الحالي، وحتّى لا يظنّ أنني أتنصّل من مساعدته والوقوف بجانبه في مدينة لا يعرف عنها الكثير حتّى الآن.

يريد أن أرافقه إلى سوق الحراج لشراء أثاثٍ مستعملٍ لبيته، قلت لنفسي، يبدو بالفعل أنّه مثلنا، لم نكن من أولئك النّاس الذين يغيّرون أثاث بيوتهم كلّ عام، أو عامين على الأكثر، ولم نكن كذلك من النّاس الذين يشترون أثاثاً جديداً لبيوتهم قبل أي مناسبة دينية، أو عائلية أو ما شابه. نحن على باب الله! نحن البقيّة الباقية القليلة من الطبقة الكادحة، أو من الطبقة ما دون المتوسطة - إذا جاز التعبير - التي بدأت بالاضمحلال والتآكل تدريجيّاً بسبب الفجوة التي تتسع بسرعة ما بين الدخل الشهري الثابت والغلاء المتصاعد. رواتبنا الشهريّة لا تكاد تصل بنا إلى منتصف الشهر والنصف الآخر من الشهر نشتري فيه ما ينقص بيوتنا من أصحاب الدّكاكين، والبقالات القريبة منّا في نفس الحيّ، وتمشي الأمور.

سمعت صوت تنبيه سيّارته يتصاعد من أسفل البناية. نظرت إلى ساعتي، كانت تشير إلى الرابعة عصراً. جاء في الوقت الذي حدّده لي تماماً. أسرعت من حركتي، فلبست ثوبي وشماغي على عجلٍ. نزلت الدرج مسرعاً لأنّ المصعد كان معطّلاً كعادته دائماً. كنت في كلّ وقت وحين أحمد الله في سرّي أقول إنّ البناية التي أسكن فيها مكوّنة من دورين، إذاً، لا حاجة إلى المصعد، إذا ما تعطّل، أو توقّف عن العمل، ولا أعلم أساساً لماذا صاحب العمارة القديمة هذه جعل لها مصعداً؟

وحالما خرجت من بوابة البناية، لفحتني موجةٌ من الهواء الحار، فانقبضت نفسي. وقرّرت في هذه اللحظة أن أعتذز منه بكلّ لطفٍ لعجزي عن مرافقته إلى الحراج. لا طاقة لي بهذا الحرّ، خصوصاً أنّني في شهور الصيف دوماً أعاني من التهاب الجلد الذي يصيبني خلف رقبتي، وما بين فخذيّ: احمرارٌ وتسلّخٌ يصيب هاتين المنطقتين من جسدي أثناء بذلي جهداً مضاعفاً في المشي، أو الحركة المكثّفة، فتجعل الحياة جحيماً لا يطاق. اقتربت من سيّارته الصغيرة الأنيقة. لمحته يؤشّر بيديه من وراء زجاجها النظيف. فتحت الباب ودلفت إلى داخل السيّارة فغمرتني نفحة من هواء مكيّف السيارة البارد، فتراجعت عن الاعتذار، بعد أن استقبلني بابتسامته المعهودة. مدّ يده فصافحني معتذراً منّي لأنّه ربما كان سبباً في حرماني القيلولة التي كانت بالنسبة إلي شيئاً ضروريّاً ومهمّأ، خصوصأ في أشهر الصيف اللاهب، إذ إنّني كنت متعّوداً النوم منذ وصولي إلى البيت في تمام الساعة الثالثة، وحتّى ما بعد مغيب الشمس. حتّى طعام الغداء لا أتناوله أحياناً، وأكتفي بوجبة العشاء. كنت إذا لم أفعل هذا «الطقس» اليوميّ المعتاد، فإنّ بقيّة يومي تصبح سيئةً جدّاً، وثقيلةً جدّاً.

انطلقنا نحو الحراج بالسيّارة الصغيرة الأنيقة ذات الموديل القديم قليلاً. حركة السير في الشوارع بدأت التسارع والازدحام. هكذا هي حركة السير في مكّة تنشط بعد صلاة العصر حتّى ساعات متأخّرة من اليوم. كانت وجهتنا صوب حراج الخردوات في «المعيصم».

قلت له:

- سنبدأ البحث عن أثاث مناسب في حراج «المعيصـم»، وإذا لم نجد حاجتنا فيه، فستذهب إلى حراج «سوق الليل» أو ما تبقى منه، بالقرب من الحرم، ثمّ إلى حراج «الجفالي» في الغزّة – إذا لزم الأمر -. هذه هي أهمّ «حراجات» مكة لبيع البضائع ذات الاستخدام المسبق.

قلت له - أيضاً - بحكم أنّني ابن المكان:

- إنّنا سوف نجد ضالتنا بكلّ تأكيد في حراج «المعيصم»، فهناك يوجد أكثر من أربعمئة وخمسين محلاًّ أكثرها تبيع الأثاث المستخدم «سكند هاند»، وإذا لم تجد ما تطلبه، فمشوارٌ بسيطٌ إلى مدينة «جدّة» سنجد ما نبحث عنه في حراج سوق «الصواريخ» الشهير، والأكبر حجماً، والأكثر تنوّعاً.

لا أدري لماذا شعرث أنّني قد أكثرت الحديث، فبدوت كأنّني أستعرض معلوماتي عن مدينتي المقدّسة، فسكتّ قليلاً. نظرت نحوه مبتسماً، هزّ رأسه استحساناً، ثمّ ابتسم في وجهي بعذوبة.

كانت الخيارات كثيرةً، ونحن نملك الوقت وحريّة الاختيار. ثمّ شملنا السكون خصوصاً بعدما شعرت بصداع القيلولة، التي لم تتم، بدأ يضرب في رأسي بقوة.

وبسبب الحر ّوالزحام، اكتفينا بمراقبة ما حولنا بعيوننا المجهدة. وشعرت بوخزات من الآلام الفظيعة فلذت بالصمت أكثر.‎ ‏

back to top