حروب البشر... هل يحتاج العالم لرسم تشريعات جديدة للتعامل بين الدول؟

العقل البشري مطبوع على العداء والعنف منذ طفولته حتى شيخوخته

نشر في 29-10-2018
آخر تحديث 29-10-2018 | 00:06
هل يملك البشر القدرة الذهنية والإرادة لإيجاد وسيلة لضبط ومجابهة «الطمع» والبغي؟ قد يتطلب الأمر مَحو كل ما كتب سابقاً على السبورة، والبدء في صفحة بيضاء لرسم قوانين وشروط وإجراءات جديدة للتعامل بين الدول.
يؤكد التاريخ حتمية نشوب الحروب، فهي متأصلة في العقل البشري، كما في جميع الكائنات الأخرى، إذ يبدأ الطفل استخدام العنف والعداء في سن مبكرة مع إخوانه وأخواته للحصول على الألعاب والملذات، ويستمر ذلك في المدرسة، ومن ثم ينمو ويزداد خبثاً ولؤماً وشراً حتى سن الشيخوخة، ليكون الطمع والأنانية أساس العنف والعداء والحروب.

غير أن البشر تميّزوا، ربما بسبب قدرتهم الذهنية الأكبر، بمحاولة كبح العداء والعنف المتأصل فيهم، وخصوصاً بعد تطورهم من مجتمعات متنقلة تعتمد على الصيد وجمع النباتات إلى مجتمعات مستقرة في قرىً بدائية، ثم في مدن، وأخيراً في ممالك وإمبراطوريات، وحاولوا تنظيم علاقاتهم عبر العادات والتقاليد العائلية والقبلية، ثم عبر الضوابط والحدود الدينية، وصولاً إلى القوانين المدنية التي صممتها نخب مجتمعاتهم، ورغم ذلك كله، استمرت الحروب بلا ردع أو قيود، بل ازدادت شراسةً ودماراً، لاسيما مع تحويل كثير من الاختراعات والابتكارات إلى ميدان القتال، مثل الأسلحة البرونزية، وعربات القتال عند الفراعنة، والمنجنيق، والنار الإغريقي، والقوس الطويل، والبارود، والطائرات، والطاقة الذرية، والليزر، ورحلات الفضاء الخارجي، وغيرها.

المعاهدات والتحالفات

وحاول البشر ضبط ومنع نشوب الحروب من خلال المعاهدات والتحالفات والهدنات، ولكنها جميعاً كانت مجرد غش وكذب، وومن ثم كان مفعولها قصير المدى، إذ لا يوجد معاهدة صادقة ولا مصافحة ملزمة، والتاريخ مليء بحالات نكث المعاهدات أو إلغائها، وعددها أكثر بكثير من حالات النكث التي شاهدناها خلال السنوات القليلة الماضية، أو التي سنشاهدها قريباً.

والمشكلة ليست في المعاهدات، فهي مجرد عمليات تمويه يستخدمها الباغي الطامع لأنه غير قادر حالياً على اختطاف مبتغاه بنجاح، ومن ثم يستخدمها لشراء الوقت، وهي بالنسبة للطرف الآخر "الضحية" فرار مؤقت من كارثة، فيؤجل وقوعها ريثما يهتدي إلى مخرج، بل المشكلة في الطمع المفرط الذي يهدف إلى الاستحواذ على خيرات وأصول الآخرين من أرض وموارد طبيعية وأسواق وخبرات وعلوم، وسيطرة سياسية، إلخ. ورغم أن الطمع للهيمنة والسيطرة الإقليمية أو العالمية ظاهرة قوية جداً يصعب التحكم بها، فإن لها نهاية، أي أنها تستمر إلى أن تستغرق مداها ثم تنتهي وتندثر، ولكن للأسف، سرعان ما تظهر من جديد في مكانٍ آخر.

وتتفاقم مشكلة الطمع والأنانية مع الأقوياء؛ لأن علاجها أصعب بكثير، فلدى الأقوياء القدرة على تجاهل القوانين والأعراف الدولية، وقرارات المنظمات والمحاكم العالمية، كما أن بإمكانهم تقرير وبشكل فردي مبررات الهجوم على من هم أضعف منهم، وقد يتخذ هجومهم أشكالاً مختلفة، مثل حرب دموية مدمرة، أو عقوبات، أو مقاطعة، أو تدخلات في شؤون الآخرين، أو خنق اقتصاد منافس أو غير مطيع، أو تحريض على الاضطرابات المدنية، أو تأجيج حروب أهلية، وغيرها من الأمور، وكل ذلك لإشباع طمعهم غير المتناهي والذي يتم إخفاؤه خلف قناع من التسميات المبهمة، كالاستراتيجيات والسياسات الجيوسياسية أو متطلبات الأمن القومي.

معاهدات الأسلحة النووية

الكاتب جورج فريدمان ذكر في 22 أكتوبر 2018 في موقع Geopolitical Futures للدراسات الاستراتيجية (سابقاً مركز Stratfor)، ما يفيد بأنه لا قيمة للمعاهدات النووية؛ لأن الرادع الحقيقي لنشوب حرب نووية هو فظاعة الدمار الناتج عنها، والذي يصيب الأطراف المتحاربة بالدرجة الأولى، وبالتبعية بقية العالم. وإن كان هذا الطرح مقدمة لتبرير نية أميركا للانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى والموقعة سنة 1987 بين أميركا والاتحاد السوفييتي، فإنه بحاجة لإعادة نظر، لأن منطقه يبدو منحازاً نحو استنتاج مستهدف مسبقاً، هو "لا ضرر من إلغاء أميركا للمعاهدة، ولا داعي للعالم أن يستنكر هذا القرار الذي يزيد من مخاطر واحتمالات دمار البشرية".

الطريف في الأمر هو أنه يمكن استخدام هذا المنطق لتبرير رغبة معظم دول العالم في تملّك قنابل نووية، مما يقوض سياسة عدم انتشار الأسلحة النووية التي تطبق بصرامة منذ عقود طويلة (بل تسببت في حروبٍ مدمرة بالعراق وليبيا، وتهدد الآن كوريا الشمالية وإيران). ورغم ذلك، لا نتوقع السماح لها بتملك القنابل النووية، ونتصور أن تبرير الغرب مبني على افتراض أن جميع دول العالم غير النووية تدار من جانب أناس لا يمكن الوثوق بقدرتهم على فهم مخاطر ونتائج تملك واستخدام القنابل النووية (وماذا عن هيروشيما وناغاساكي؟).

وقدم فريدمان مثالاً مزدوجاً يدعم رأيه، وباطنياً يبرر رفض نشر الأسلحة النووية في العالم، إذ ادعى أن "المجنون" ماو تسي تونغ (عظيم الصين الأسبق) دأب على التهديد بتدمير العالم إلى أن تملّك قنابل نووية، فأوقف تهديداته فوراً.

ورغم اتفاقنا على أن المعاهدات لا تمنع الحروب، بل تؤجلها، فإننا نعتقد بأن المعاهدات التي تقلص من تطوير نماذج أسلحة جديدة أكثر قوةً وفتكاً، وتحدد مناطق حظر نصبها، تساهم بشكل فعال في تقليص دخول أسلحة مدمرة جديدة إلى ميادين القتال هي حلول مؤقتة مهمة، كما أنها توفر الوقت الإضافي الضروري لمعالجة أزمات اندلاع فورات "الطمع" في العلاقات الدولية لعلها تمنع تحولها إلى حروب مدمرة.

الجانب الاقتصادي للمعاهدات

ولكن الأهم في موضوع المعاهدات (والذي لم يتطرق إليه المفكر الاستراتيجي) يتعلق بموضوع الاقتصاد، فجميع الحروب مكلفة، وعندما يستحوذ الطامع الباغي على جميع الأراضي المتوفرة، ويقضي على جميع الضحايا، لن يجد مورداً جديداً يغذيه فينهار من ثقل وزن مصاريفه وتكاليفه، والتاريخ مليء بالأمثلة لنهايات مأساوية لإمبراطوريات عظيمة أفلست فاندثرت.

فالعالم غارق حالياً في الديون القياسية، وليس هناك أمل في معالجتها، فما بالكم بسدادها. كما لا توجد دولة، بغض النظر عن حجمها أو ثرائها، تمتلك مناعة ضد مرض التبذير والصرف الأهوج الذي يؤدي إلى عجوزات مزمنة في ميزانياتها. فما بالكم بإلغاء المعاهدة النووية وإطلاق العنان لسباق تسلّح جديد مكلف، ولأي هدف؟ فالأقوياء يمتلكون حالياً أعداداً من القنابل النووية كافية لتدمير الكرة الأرضية عشرات المرات، وإضافة أسلحة جديدة لن يرجح كفة أي من الخصوم، وخصوصاً على المديين المتوسط والأطول، وقد تكون هذه هدية مغرية لمصانع وتجار الأسلحة، ولكن من الأجدى تحويل المصاريف العسكرية نحو المشاريع التنموية الاجتماعية والاقتصادية ذات العائد الحقيقي.

الحل الحقيقي للحروب

أن المشكلة الحقيقية هي الطمع والأنانية المفرطة التي لا يمكن مَحْوها من العقول البشرية، ولكن ربما من الممكن ضبطها وتخفيف وقعها السلبي من خلال التصرف الجماعي الدولي، فرغم وقوع الجاموس الإفريقي الأعزل ضحية سهلة للأسد، فإن تعاون قطيع الجواميس يُمَكِّنَهُم من الصمود في أرضهم ورد صاع الأسد صاعين، وهو عادة ما يؤدي إلى مقتل أو جرح الأسد وإلغاء الهجوم.

فهل لدى البشرية القدرة الذهنية والإرادة لإيجاد وسيلة لضبط ومجابهة «الطمع» والبغي؟ قد يتطلب الأمر مَحو كل ما كتب سابقاً على السبورة، والبدء في صفحة بيضاء لرسم قوانين وشروط وإجراءات جديدة للتعامل بين الدول. وفشلنا هنا يعني فشل العالم بما فيه مستقبل الأجيال القادمة، أي أن الخسارة ستعم الجميع… بغض النظر عمن يكسب المعركة الحالية.

العادات والحدود الدينية والقوانين المدنية فشلت في ردع الحروب أو تقييدها خصوصاً مع اتجاه التكنولوجيا إلى ميدان القتال

المعاهدات والتحالفات محاولات باهتة لوقف النزاعات ما تلبث أن تتلاشى ويظهر وهمها
back to top