هاروكي موراكامي: يجب أن نعبر الظلمة قبل أن نبلغ النور

نشر في 26-10-2018
آخر تحديث 26-10-2018 | 00:00
قبل يوم من لقائنا في مانهاتن بنيويورك الأميركية، أوقفت امرأة هاروكي موراكامي في منتزه «سنترل بارك» الذي قصده لممارسة رياضة الركض في وقت متأخر من الصباح. قالت له: «عذراً! ألست الروائي الياباني المشهور جداً؟». يخبر بطريقته الهادئة المعتادة: «أجبتها: كلا، أنا مجرد كاتب. رغم ذلك، سررت بلقائك، ثم تصافحنا. عندما يوقفني الناس على هذا النحو، أشعر بغرابة كبيرة لأنني مجرد إنسان عادي. لا أفهم لمَ يرغب الناس في لقائي».

نخطئ إذا ظننا أن هذا تواضع كاذب، إلا أننا نقترف خطأ أيضاً إذا اعتبرناه انزعاجاً حقيقياً من الشهرة.

يقرأ الملايين قصصه السريالية، إلا أن هذا الروائي الياباني مندهش من شهرته. يكشف هذا الكاتب المرشح دوماً لجائزة «نوبل» الأسباب التي تجعل كتبه جذابة إلى هذا الحد في أوقات الفوضى. أوليفر بوركيمان من «ذي غارديان» تحدث إليه.

مما نستشفه من حديث الروائي هاروكي موراكامي (69 سنة) أنه لا يعشق شهرته العالمية ولا يمقتها. بدلاً من ذلك، ينظر نظرة مشاهد فضولي مندهش بعض الشيء إلى القصص السريالية التي تنبع من لاوعيه وإلى واقع أن القراء ينكبون بالملايين على أعماله، اليابانية منها والمترجمة.

من المنطقي أن تحظى أعمال موراكامي بشعبية واسعة في أزمنة الاضطرابات السياسية: تمارس تأثيراً آسراً وأحياناً منوماً على القارئ مع غرابة تطورات حبكتها التي تلطفها بساطة عاطفية تبدو ملجأ مريحاً يحمي من العالم الحقيقي وتطرفه. يجب ألا نتوقع من موراكامي أن يخبرنا بما يُفترض أن يعني أياً من محتويات أعماله الخيالية. ينطلق هذا الكاتب من ثقة راسخة بلاوعيه. فإذا نبعت صورة من هذه البئر الداخلية المعتمة، يفترض أنها تحمل المعاني بطبيعتها. أما عمله، فيقوم على تسجيل ما ينبع لا تحليله (يقول وقد جعدت وجهه ابتسامةٌ إن هذا عمل «الأذكياء. ولا داعي لأن يكون الكتّاب أذكياء»).

تساقط الأسماك

في روايته عام 2002 «كافكا على الشاطئ»، مثلاً، ثمة مشهد تبدأ فيه الأسماك بالتساقط من السماء كالبرَد. يذكر: «يسألني الناس: لمَ اخترت السمك؟. لا أملك جواباً لهم. راودتني فحسب فكرة سقوط شيء ما من السماء، ثم تساءلت: ماذا يجب أن يسقط من السماء؟ وقلت لنفسي: السمك! السمك فكرة جيدة».

يذكر موراكامي: «إذا كان هذا ما يخطر على بالي، فلا بد من أنه يحمل مغزى ما، مغزى من اللاوعي العميق يلقى صدى عند القارئ. وهكذا أحظى أنا والقارئ بمكان لقاء تحت الأرض، مكان سري في اللاوعي. في ذلك المكان، قد يكون من الملائم تماماً أن يتساقط السمك من السماء. مكان اللقاء هو المهم لا تحليل الرمزية أو ما شابه. أترك ذلك للمثقفين».

يبدو إحساس موراكامي بنفسه، الذي يمكننا تشبيهه بنوع من أنبوب أو صلة وصل بين وعيه ووعي قرائه، قوياً جداً حتى إنه توقف، بعد وصفه ذاته بشكل عابر بـ{راوٍ طبيعي»، ليصحح ما ذكره قائلاً: «كلا، لست راوياً ولست من محبي مشاهدة القصص». علاقته مع تلك الروايات علاقة حالم بحلم. وقد يوضح هذا لمَ يدّعي أنه قلما يحلم ليلاً. يقول: «ربما أحلم مرةً في الشهر. لكنني لا أحلم عادة ربما لأنني أحلم حين أكون مستيقظاً. لذلك لست مضطراً إلى أن أحلم وأنا نائم».

عندما أيقظَته ذات صباح المجلة الأدبية اليابانية «غانزو» في إحدى نهايات الأسابيع، متصلةً به هاتفياً لتخبره أن روايته اختيرت لتكون بين عددد قليل من الروايات المرشحة للفوز بجائزتها للكتّاب الجدد، أقفل الخط ثم ذهب في نزهة مع زوجته يوكو. خلال النزهة، عثرَا على حمامة مصابة فحملاها إلى مركز الشرطة المحلي. كتب بعد سنوات: «كان يوم الأحد ذاك مشرقاً وصافياً جداً. كانت الأشجار، والمباني، وواجهات المتاجر تلمع ببريق جميل تحت أشعة شمس الربيع. وهناك استوعبت ما كان يحدث. سأفوز بجائزة. سأصبح روائياً يحظى بدرجة من النجاح. كان هذا افتراضاً جريئاً، إلا أنني كنت واثقاً في تلك اللحظة من أن هذا ما سيحدث، كنت واثقاً تماماً لا افتراضياً بل مباشرةً. هذا ما أنبأني به حدسي».

الولد المنبوذ

لكن موراكامي لم ينل في الحال رضا النقاد في اليابان. يتذكر: «كنت الولد المنبوذ في عالم الأدب الياباني». ويعود ذلك في جزء منه إلى كتبه التي خلت من أية علامة إلى تجذرها في اليابان وحفلت في المقابل بإشارات إلى الثقافة الأميركية. لذلك اعتُبرت «أميركية جداً». يذكر هذا الروائي: «لما كنا وُلدنا بعيد الحرب، فتربينا على الثقافة الأميركية: أستمع إلى موسيقى الجاز والبوب وأشاهد برامج تلفزيونية أميركية، وشكّلت هذه نافذة إلى عالم آخر. لكنني في مطلق الأحوال، أملك أسلوبي الخاص، لا أسلوباً أميركياً أو يابانياً، بل أسلوبي الخاص».

في مطلق الأحوال، بغض النظر عن رأي النقاد، حقق موراكامي نجاحاً نما باطراد وبلغ ذروته في عام 1987 مع «الغابة النرويجية»، وهي قصة مؤلمة عن الحنين إلى حب الشباب. باعت هذه الرواية 3.5 ملايين نسخة في غضون عام من صدورها. كُتبت بطريقة واقعية يأبى موراكامي العودة إليها في رواياته. ولكن عند التفكير ملياً، ندرك أن هذا الكاتب يرفض مفهوم أن رواياته عن الأسماك المتساقطة والنساء الحوامل بشكل خارق للطبيعة ليست واقعية. يشير: «هذه واقعيتي. أحب غابريال غارسيا ماركيز كثيراً، غير أنني لا أعتقد أنه يظن أن ما كتبه يُصنَّف واقعية سحرية. كانت هذه واقعيته. يشبه أسلوبي نظاراتي: فمن خلال هذه العدسات، يبدو العالم منطقياً في نظري».

روتين كتابة

بينما علت مكانته، بدأ موراكامي يتقن أيضاً روتين كتابة صار اليوم شهيراً شهرة أية رواية من رواياته: يستيقظ في الرابعة صباحاً ليكتب لخمس أو ست ساعات، منتجاً نحو 10 صفحات يومياً قبل أن يركض عشرة كيلومترات على الأقل ويذهب أحياناً للسباحة. يخبر موراكامي: «عندما أصبحتُ كاتباً، قررت أن أعيش حياة منظمة جداً: النهوض مبكراً والنوم مبكراً والتمرن يومياً. أؤمن بأن علي أن أتمتع بصحة جيدة جسدياً كي أتمكن من كتابة أعمال جيدة».

ربما يكون موراكامي مجرد أنبوب أو أداة وصل. ولكن من واجبه أن يبقي هذا الأنبوب بحالة جيدة ومنتجة. ووفق الشكل الخارجي، يبدو أن أسلوبه يحقق النجاح، حتى إنك تخاله في الخمسين من عمره. بالإضافة إلى ذلك، تشكّل وتيرة الحياة هذه مصدر سعادة عميقة، ما قد يكون السبب وراء إطالته كتبه. يخبر: «أعيش راهناً أياماً ممتعة. إذاً، كلما تعاقبت هذه الأيام، ازداد الفرح وكثرت الصفحات. لا أعرف حقاً لمَ يهوى الناس مطالعة كتبي الطويلة. لكنني (من دون ذرة كبرياء) أتمتع بشعبية كبيرة».

علاوة على ذلك، يمدّه هذا الروتين المفرط الإنتاجية بطاقة فائضة يمكنه استثمارها في القصص القصيرة والأعمال غير الخيالية. يستمتع موراكامي بمطالعة أعماله المترجمة إلى الإنكليزية لأنه يكون بذلك كمن يقرأ رواية جديدة بالكامل. يقول: «تستغرق ترجمة هذه الكتب الطويلة سنة أو اثنتين. لذلك، عندما تنتهي ترجمتها، أكون قد نسيتها». يدّعي أنه متحمس فيما يقلب الصفحات ويضيف: «ماذا سيحدث؟ ثم يتصل بي المترجم: مرحباً هاروكي، هل أعجبتك الترجمة؟. فأجيبه: هذه رواية مذهلة! أحببتها كثيراً!».

مواقف في السياسة

لا يتبنى موراكامي موقفاً شبيهاً بما نراه بين الكتَاب عادةً إلا عندما تتحوَّل محادثتنا إلى السياسة الأميركية، ولا مفر من ذلك. عندما سألناه عن رأيه بشأن أزمة بلد يعزّه كثيراً، راح يفكّر بصمت دقيقة كاملة ثم أجاب: «حين كنت في سنوات مراهقتي في ستينيات القرن الماضي، اختبرنا عصر المثالية. آمنا بأن العالم سيصبح أفضل إن حاولنا. ما عاد الناس اليوم يؤمنون بذلك. وأعتقد أن هذا أمر محزن. يقول الناس اليوم إن كتبي غريبة. ولكن بعد الغرابة، يجب أن نبني عالماً أفضل. علينا فحسب أن نختبر الغرابة قبل أن نصل إلى عالم أفضل. يشكّل هذا الأساس الرئيس في رواياتي: يجب أن نعبر الظلمة، أن نعبر تحت الأرض، قبل أن نبلغ النور».

تحليل الأمور عمل الأذكياء ولا داعي لأن يكون الكتّاب أذكياء
back to top