ترامب وعقيدة الجيش الأميركي

نشر في 07-10-2018
آخر تحديث 07-10-2018 | 00:07
 ياسر عبد العزيز تفيد التصريحات المتتالية الصادرة عن الرئيس الأميركي ترامب بخصوص الأدوار العسكرية الخارجية لبلاده أن الرجل بصدد إجراء تغيير جوهري في سياسات العسكرية الأميركية، وهو تغيير قد يمس صلب العقيدة العسكرية للبلاد.

مع مطلع القرن العشرين بات مصطلح العقيدة العسكرية أحد أهم عوامل فهم الطبيعة العسكرية للجيوش وتقدير حدود ممارساتها خلال الحرب والسلم.

والعقيدة لغة هي "ما عقد عليه القلب والضمير"، لكن العقيدة العسكرية اصطلاحاً تُعرّف من قبل بعض الباحثين بأنها "مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية".

ويُعرف "الناتو" العقيدة العسكرية بأنها "مُجمل المبادئ الأساسية التي تتخذها القوات العسكرية لإنجاز مهامها، وهي قواعد مُلزمة وإن ظلت المواقف القتالية المختلفة الحكم الأساسي لاتباع أي من قواعد العقيدة العسكرية".

يعرف تاريخ الحروب بين الأمم ميراثاً من التنظير الذي يمكن تلخيصه في مصطلح "عقد التاريخ العسكري"، الذي يتناول بدوره سجلاً من الانتصارات أو الهزائم المرتبطة بقرارات واستراتيجيات محددة، تتحول فيه السياسة التي أثمرت نجاحاً إلى عنصر تفاؤل واستبشار، في حين تنزوي السياسات التي جلبت هزائم في صورة "عقدة تاريخية" أو نذر شؤم.

من بين أشهر العقد التاريخية على المستوى الدولي إخفاق الجيش الأميركي في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت في فيتنام، وتورط الجيش السوفياتي في أفغانستان.

ترتبط هذه العقد التاريخية بمبدأ يمثل عنصراً من عناصر العقيدة العسكرية لأي جيش محترف، وهو العنصر الخاص بعملية الانتشار الخارجي، أو الحرب خارج الديار.

تشهد الحياة السياسية الأميركية راهناً حالة جدل متجددة، وهو جدل ينعكس في دراسات وأبحاث تصدر عن مراكز البحوث ومستودعات التفكير وأعضاء الإدارة، ويركز على طبيعة دور، وحدود انتشار، ونطاق عمليات القوات العسكرية الأميركية.

ينقسم المتجادلون في هذا الصدد إلى فريقين رئيسين؛ أولهما يعتقد أنه من الضروري أن تقلل الولايات المتحدة من وجودها العسكري في العالم، وأن تجتهد في سحب عديد القوات المنتشرة في عشرات النقاط الساخنة حول العالم، ويستند هؤلاء في تأييد حجتهم إلى إخفاق القوات الأميركية في فيتنام، وعدم تحقيق الأهداف المرجوة في العراق وأفغانستان، في حين يرى الفريق الثاني أن إعادة انتشار القوات الأميركية بشكل يحد من وجودها في الخارج يخصم من القوة الشاملة للولايات المتحدة، ويعرض أمنها القومي للخطر.

في صيف العالم الجاري، صدر كتاب مهم للمؤرخ الأميركي روبرت كيغان، بعنوان "الغابة تعود إلى النمو: أميركا وعالمنا المهدد" The Jungle Grows Back: Our Imperiled World، وهو الكتاب الذي يشرح فيه كيغان أهمية بقاء الجيش الأميركي منتشراً في المناطق التي ترى واشنطن أنها مهمة لتحقيق أمنها القومي وصيانة مصالحها.

ويلخص كيغان فكرته في أن "نشر الجنود خارج الديار هو أمر سيئ، لكنه يحدث تجنباً للأكثر سوءاً، وبقاؤهم داخل الحدود آمنين هو أمر جيد، لكن يجب آلا ينطوي ذلك على خسارة أمننا القومي وتعريض حياتنا للخطر وخسارة موقعنا في العالم".

يعتقد البعض أن معظم تدخلات أميركا العسكرية في الخارج لم تسفر إلا عن خسائر، عندما تهيمن عليهم فكرة فيتنام، لكن هؤلاء يفوتهم سجل حافل من التدخلات الأميركية العسكرية الظافرة، التي جعلت أمن الأميركيين أكثر منعة وحققت مصالحهم الاستراتيجية بشكل أفضل من وجهة النظر الوطنية الأميركية.

من بين التدخلات التي لا يذكرها أصحاب الاتجاه الأول التدخل في كولومبيا 1901، وهندوراس 1902، واستعادة النظام في كوبا 1906، ودخول هاييتي 1914، والسيطرة على الدومنيكان 1916، وإطاحة حكومة غواتيمالا 1954، وغزو خليج الخنازير 1961، والتدخل في تشيلي 1973، ومهاجمة ليبيا 1986، وضرب بنما واعتقال مانويل نورييغا 1989، وصولاً إلى حرب البوسنة 1992، وضرب بلغراد 1999، إضافة بالطبع إلى نجاح واشنطن في قيادة تحالف دولي أخرج العراق من الكويت بعد غزوها في مطلع العقد نفسه.

إنه قرن كامل من استخدام القوة العسكرية الأميركية خارج الديار، ورغم أن معظم تلك التدخلات لم تستند إلى ذرائع أخلاقية أو سياسية مقبولة من وجهة نظر المستهدفين ومعظم دول العالم، فإنها في النهاية حققت المصالح الوطنية الأميركية بشكل ملحوظ من وجهة نظر القادة في واشنطن، وربما أسهم بعضها في صيانة الأمن الوطني للبلاد.

في عام 1993، صدرت وثيقة استراتيجية فائقة الأهمية في موسكو، بعنوان "وثيقة الأمن القومي"، وهي الوثيقة التي أعادت تشخيص المنهجية العسكرية للبلاد، مشددة على "توفير القدرة الكاملة للقوات التقليدية على الانتشار الاستراتيجي في مناطق الأزمات، والقيام بعمليات ناجعة وسريعة".

انطلاقاً من تلك المنهجية، يمكن فهم السلوك الروسي إزاء أوكرانيا، ودول أوروبا الشرقية التي انضمت لـ"الناتو"، وسورية. سيمكن أيضاً أن تتم محاكمة السلوك العسكري الروسي في تلك المواضع أخلاقياً وسياسياً، وصولاً إلى إدانته مثلما هي الحال مع السلوك الأميركي، لكن الأكيد أن الدولة الروسية ترى في هذه المنهجية صيانة لأمنها الوطني كما تشخصه، وتعزيزاً لمصالحها كما تراها.

لطالما كان احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها، والابتعاد عن استخدام القوة مسألة ضرورية أخلاقياً وسياسياً، لكن بعض متطلبات الدفاع تفرض انتشار القوات خارج الديار، وبعض مقتضيات الأمن الوطني والمصلحة الوطنية تفرض القتال عبر البحار.

لقد خلص الفكر الاستراتيجي الغربي في مجال الدراسات العسكرية إلى ضرورة المرونة في تحديد نطاق الانتشار العسكري والعمليات العسكرية وفقاً لطبيعة التهديد وميزان القوى بين الأطراف المتصارعة.

وفي هذا الصدد، يخبرنا تاريخ العسكرية أن كثيراً من الحروب التي خاضتها الجيوش الوطنية خارج الديار كانت الخيار الأفضل لتحقيق النصر وخفض التكاليف إلى أقل حد ممكن.

يريد الرئيس ترامب أن يحد من انتشار القوات الأميركية خارج الديار، أو أن يحولها إلى مرتزقة تُحصل عائدات انتشارها "فوراً ونقداً"، وهو أمر يزعزع العقيدة العسكرية للجيش، ويمنح فرصاً لروسيا والصين لتأدية أدوار خارجية أكثر فاعلية، ويقوض نفوذ واشنطن.

* كاتب مصري

back to top