يقظة الشعر تحت وطأة التقشف

نشر في 25-02-2018
آخر تحديث 25-02-2018 | 00:00
 فوزي كريم كتاب جديد بين يديّ، صدر عن دار Penguin، أقرأ فيه منذ أيام، تحت عنوان "إجراءات التقشف، الشعر اليوناني الجديد" Austerity Measures. معظم قصائد المختارات كُتبت بعد عام 2008، عام أزمة الديون التي عصفت باليونان، والتي لم تهدأ آثارها عالمياً حتى اليوم. إلى جانب أن اليونان أصبحت معبراً لموجة ضخمة من اللاجئين الهاربين من الجوع والحرب إلى الغرب. التقشف، وهي سياسة اقتصادية منهزمة في اليونان، تعلن نتيجتين متناقضتين: فرغم علة البطالة العالية، وصعود موجة النازية الوليدة، تعلن مولد نهضة ثقافية. أتون أزمة مستعصية على الحل، لكنها في الوقت ذاته سبيل إلى نوع من ازدهار شعري، اعتبره النقاد فائقا للعادة في قوة تأثيره وابتكاره، بحيث دفعت كارين ﭭان دايك، أستاذة الأدب اليوناني المعاصر في جامعة كولومبيا، إلى عمل هذه المختارات الضخمة نسبياً.

المختارات موزعة على ستة أبواب، لشعراء مؤسّسين في مجلات الشعر المعروفة، يليهم شعراء المنشورات الصغيرة، شعراء مواقع الإنترنت، شعراء العرض المسرحي، شعراء المحافظات، ثم الشعراء المهاجرون الذين لهم جذور في دول البلقان.

خلطة حيوية تتمتع بها اليونان بشكل خاص، الأمر الذي شكَّل جاذبية للمترجمين الكُثر الذي يحسنون اللغة اليونانية. طبعاً، يقف الإرث اليوناني الكبير، الذي يرى فيه الغربيون جذرهم الثقافي، في مقدمة الدوافع. بشأن الشعر اليوناني الحديث أذكر أكثر من مختارات، صدرت في الإنكليزية، منها للجيل الثلاثيني، الذي حقق سمعة عالمية، ويتضمن كاﭭافي Cavafy، سيفيرِس Seferis، أليْتِس Elytis، وريتسوس Ritsos. ومختارات لشعراء المرحلة التالية، مرحلة محنة الحكم الديكتاتوري العسكري، أصدرتها جامعة هارﭭرد عام 1972. في المختارات ثمانية عشر نصاً لشعراء عاشوا تحت وطأة الرقابة، واكتسبوا، شأن السابقين عليهم، اعترافاً عالمياً. والآن، وخلال أزمة أخرى في البلد، نقع من جديد على أصوات شعرية، تقول "ما لم يقله أحد من قبل"، على حد تعبير أحد النقاد.

شعراء المختارات شبان تحت الأربعين من العمر في الأغلب، لكنهم يرثون تقاليد شعرية يونانية غنية، إلى جانب جديتهم في حقل المعرفة. شعراء يسعون إلى اكتشاف درب جديد، يبقيهم منسجمين مع تغيرات بالغة الضخامة، لا أحد يستطيع التنبؤ بها.

قصائد المختارات ليست سياسية في معظمها، رغم دوافعها السياسية، لأنها لا تتعامل مع الأزمة بصورة مُعلنة ومباشرة. إن كان فيها صوت فردي، لكن جماعيتها خفية غير مباشرة أيضاً. إن شاعراً مثل يازرا خاليد Jazra Khaleed، الذي ينفرد بصوته السياسي الحاد، الذي يذكر بشعراء البيتز الأميركيين، يعرف بوضوح هدفه الإنساني:

"لا أنتمي لوطن/ أعيش داخل الكلمات/ تلك المكفنة بالسواد/ والتي أُخذت رهينة. هل تسمعني يا مصطفى؟/ إن مقعد السلطة كامن في اللغة/ حيث دورية الشرطة/ ما من مزيد لدوائر الشعر!/ ما من مزيد لشعراء الجوائز!".

هذه قصيدة للشاعر يانيس ستِـﮔاس (مواليد 1977) Yannis Stiggas، موجهة إلى الشاعر ﭘول تسيلان، بعنون "أخي ﭘول، حفّار نهر السَين":

أنت تحفر وأنا أحفر/ وأنا أحفر داخل نفسي باتجاهك يول تسيلان

ذات يوم فيما كان يحفر/ بلغ فمَ أمه الثلجي،/ جدائلَ أسلافه الطويلة./

في اليوم التالي بلغ جذور الماء/ الأحجار/ ألسنة اللهب./

المحنُ التي عاناها خلّفت سحابةً محترقة في تحديقته،/

ومتاعبَ مع الريح،/ وضيقَ أنفاس.

"العمقُ وحده"، قال "العمقُ حد النفاد هو لغتي/ ووطني."/

بعدها خرج إلى مكان/ مليء بالأشجار والأنهار والطيور/

فبلغ نشوته/ إلى أن سمع أوامر العسكر:

"اسرع، خذ حالة الاستعداد،/ ابعث تقريراً لغرفة المؤونة"./

الأشجار والأنهار والطيور اختفت./ وحده السين بقي ينظر إلى عينيه.

back to top