إغراءات الصين الصامدة

نشر في 30-03-2017
آخر تحديث 30-03-2017 | 00:06
يبدو أن التركيبة التي تتألف من المرونة والصمود في الأمد القريب والولايات المتحدة التي تنظر إلى الداخل تعطيان الصين فرصة عظيمة ومرغوبة بشدة، ولكن ينبغي للصين أن تقاوم إغراءات استعراض القوة العالمية، وأن تُبقي تركيزها على تنفيذ استراتيجيتها الداخلية.
في الآونة الأخيرة شهدنا حالة فزع أخرى مرتبطة بنمو الاقتصاد الصيني تأتي ثم تذهب، ويتناقض هذا بطبيعة الحال مع الرأي التقليدي في الغرب، الذي توقع لفترة طويلة هبوطا حادا في الصين، ومرة أخرى أخطأ المنظور الغربي تقييم السياق الصيني، النظام المرن الذي يؤكد بشدة أهمية الاستقرار.

في كلمته الأخيرة التي ألقاها رئيس مجلس الدولة الصيني لي كي تشيانغ في إطار منتدى تنمية الصين الأخير أنبأنا بكل شيء، كنت مواظبا على حضور هذا التجمع طوال سبعة عشر عاما على التوالي، وتعلمت كيف أقرأ بين سطور كلمة رئيس الوزراء.

في أغلب الأحيان، يواصل كبار قادة الصين التأكيد على تصريحاتهم المضجرة حول الإنجازات، والأهداف، والإصلاحات، محافظين على الخط الرسمي المتمثل في "تقرير العمل السنوي" بشأن الاقتصاد والذي يُسَلَّم إلى مجلس الشعب الصيني قبل أسبوعين من انعقاد المنتدى.

بيد أن هذا العام كان مختلفا، ففي مستهل الأمر بدا لي كي تشيانغ خافتا خاملا في ردوده الخرقاء على أسئلة جمهور من الشخصيات العالمية اللامعة التي ركزت على قضايا كبيرة مثل الاحتكاكات التجارية، والعولمة، والتحول الرقمي، والأتمتة، ولكنه أفاق في تصريحاته الختامية- فقدم إعلانا عفويا حول القوة الكامنة وراء الاقتصاد الصيني، مصرحا بقوة: "لن يكون هناك هبوط حاد".

وكانت الإشارة الواضحة من لي متوافقة مع البيانات الرسمية في أول شهرين من 2017: قوة متماسكة في مبيعات التجزئة، والإنتاج الصناعي، واستهلاك الكهرباء، وإنتاج الصلب، والاستثمارات الثابتة، وأنشطة قطاع الخدمات (ويأتي مؤشر شهري جديد من ابتكار المكتب الوطني للإحصاء في الصين لكي يؤكد قوة أنشطة قطاع الخدمات).

من ناحية أخرى، انتعشت احتياطيات النقد الأجنبي في فبراير للمرة الأولى في ثمانية أشهر، مما يشير إلى تراجع وتيرة تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج.

في الوقت نفسه، استرشد بنك الشعب الصيني برفع سعر الفائدة في بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي هذا الشهر، فعزز سعر الفائدة الصينية بنحو عشر نقاط مئوية، وما كان بنك الشعب الصيني ليتخذ هذه الخطوة لو كان قلقا إلى حد كبير بشأن الحالة الأساسية للاقتصاد الصيني.

بيد أن أفضل ما في الأمر كان بيانات التجارة، على وجه التحديد نمو الصادرات السنوية بنسبة 4% في يناير وفبراير، بعد انكماش بنسبة 5.2% في الربع الرابع من عام 2016، ويؤكد هذا تفاوتا أساسيا بين أحدث حالات الفزع بشأن النمو الصيني وسابقاتها.

وبوسعنا أن نسمى هذا تأثير ترامب: فقد أتى إحياء "الغرائز الحيوانية" في الاقتصاد العالمي في الأشهر الأخيرة ومعه قدر كبير من الفرج للاقتصاد الصيني الذي لا يزال معتمدا بشكل كبير على الصادرات، وفي حين تفاقمت حالات الفزع السابقة بشأن النمو بفِعل الضغوط الهبوطية المزمنة الناجمة عن تباطؤ الطلب العالمي في مرحلة ما بعد الأزمة، أفسحت الرياح المعاكسة الخارجية هذه المرة المجال لرياح مواتية.

ولكن في حين تُعَد التكهنات بشأن الاقتصاد الصيني في الأمد القريب مشجعة بشكل أكبر كثيرا من أغلب التوقعات، يبدو أن شعورا غريبا بالإنكار، الذي يكاد يرقى إلى الغطرسة، يدب زاحفا على الفكر الجماعي الاستراتيجي في الصين. وفي حين تنظر الولايات المتحدة إلى الداخل، يبدو أن صناع القرار في الصين عازمون على اغتنام الفرصة التي قد تنشأ نتيجة للتحول الهائل في القيادة العالمية.

سُئِلت مرارا وتكرارا عن إمكانية تمحور العولمة حول الصين، العولمة التي تعززها القيادة الصينية في التجارة المتعددة الأطراف (الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية بين 16 دولة)، والاستثمار الإقليمي (المبادرة الصينية حزام واحد وطريق واحد)، والبنية المؤسسية الجديدة (البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي تهيمن عليه الصين وبنك التنمية الجديد). ويكاد يكون الأمر وكأن الصين كانت تستعد لملء الفراغ الذي تخلفه سياسة "أميركا أولا" التي ينتهجها دونالد ترامب في الولايات المتحدة. يحترم الصينيون التاريخ بشدة، وهم يعلمون أن التحولات في الزعامة العالمية والقوة الاقتصادية تحدث ببطء شديد وليس بشكل مفاجئ، ومع ذلك يساورني شعور بأنهم ينظرون إلى الظروف الراهنة في ضوء مختلف تمام الاختلاف: فقد غير ترامب، المفسد العظيم، القواعد التي تحكم العولمة التي كانت الولايات المتحدة مركزا لها لفترة طويلة. والآن يتساءل كثيرون في الصين حول ما إذا كانت هذه فرصة سانحة للاستيلاء على زمام القوة العالمية. الواقع أن كل شيء ممكن، وخصوصا في عالم حيث الحقيقة الوحيدة الثابتة هي عدم اليقين، ولكن التاريخ ينطوي على درس آخر يتعين على قادة الصين أن يضعوه نصب أعينهم، فكما أَكَّد المؤرخ بول كينيدي من جامعة ييل لفترة طويلة، يأتي صعود القوى العظمى وسقوطها دوما في ظل ظروف "فرط الامتداد الجيوستراتيجي"، عندما يتسبب ضعف الأسس الاقتصادية المحلية في تقويض آفاق القوة العالمية للدولة. ذلك أن الزعامة العالمية تبدأ بالقوة في الداخل، ولا تزال الصين ماضية على طريق طويل من إعادة التوازن وإعادة الهيكلة قبل أن تصل إلى أرض الميعاد لما تسميه قياداتها "المعتاد الجديد".

ولكن الأمر لا يخلو من انفصال آخر مهم بين المنظور داخل الصين والتصورات السائدة في الغرب، فتتلخص وجهة النظر من الخارج في أن الإصلاحات الصينية، وسبل إعادة التوازن، توقفت خلال السنوات الخمس الماضية في عهد الرئيس شي جين بينغ. وكانت النظرة نفسها سائدة تحت قيادة الرئيس السابق هو جين تاو التي دامت عشر سنوات. ولكن هل هذه حقا الطريقة الصحيحة لتقييم ما يحدث في الصين؟

من المؤكد أن النتائج أكثر أهمية من التصريحات الكبرى، فمنذ عام 2007 عندما تصدى رئيس مجلس الدولة السابق وِن جيا باو لعملية إعادة التوازن إلى الاقتصاد الصيني الذي أصبح "غير مستقر، وغير متوازن، وغير منسق، وغير مستدام"، كانت البنية الاقتصادية في الصين خاضعة في حقيقة الأمر لتحول درامي، فقد انخفضت حصة ما يسمى القطاع الثانوي (الصناعات التحويلية والبناء) في الناتج المحلي الإجمالي من 47% في عام 2007 إلى 40% في عام 2016، في حين ازدادت حصة القطاع الثالث (الخدمات) من 43% إلى ما يقرب من 52%. والتحولات البنيوية من هذا الحجم ليست بالأمر الهين، والنقطة الأساسية التي غابت عن مُنكري الإصلاح هي أن الصين تحقق في واقع الأمر تقدما سريعا على الطريق إلى إعادة التوازن. كل هذا يعيدنا إلى التساؤلات المطروحة في منتدى تنمية الصين هذا العام، ويبدو أن التركيبة التي تتألف من المرونة والصمود في الأمد القريب والولايات المتحدة التي تنظر إلى الداخل تعطيان الصين فرصة عظيمة ومرغوبة بشدة، ولكن ينبغي للصين أن تقاوم إغراءات استعراض القوة العالمية، وأن تُبقي تركيزها على تنفيذ استراتيجيتها الداخلية، والآن يتلخص التحدي في إدراك "الفرصة الهائلة" التي روج لها لي كي تشيانغ عندما استبعد الهبوط الحاد.

ستيفن س. روتش*

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لشركة مورغان ستانلي في آسيا، وهو مؤلف كتاب "انعدام التوازن: علاقة الاعتماد المتبادل المَرَضية بين أميركا والصين".

«بروجيكت سنديكيت، 2017»

بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top