كهف أفلاطون

نشر في 07-01-2017
آخر تحديث 07-01-2017 | 00:09
 حسين بوكبر في العقود الأخيرة، تسيّدت وسائل الإعلام بكل أشكالها وأنماطها وتقنياتها الساحة الاجتماعية، وباتت السلاح الأقوى والأنجع لتحقيق المكاسب بأقل الخسائر، فمن خلال هذه الوسائل تتمكن القوى المهيمنة من تشكيل عقول وأفكار وتوجهات، بل رغبات الشعوب وميولها وحتى أذواقها. من هنا قد تطرح فكرة أننا أسرى لتشكيل سلطوي يملك الإعلام ويملك المدرسة ويملك القانون، و»من يملك القانون في أوطاننا هو الذي يملك حق عزفه»، كما يقول الشاعر أحمد مطر.

إن التعبير عن الفكرة السابقة قد أخذ صياغات فلسفية مختلفة، منها الوعي الزائف أو التأطير السلطوي الذي يتوسل العدة الأيديولوجية التي تملكها الدولة كما فصلت في ذلك الماركسية وعلى الأخص في نسختها الألتوسيرية، أو من خلال التشابك والتداخل بين المعرفة والسلطة، فالسلطة معرفة والمعرفة سلطة، وتجلت الصياغة الأخيرة عند ميشيل فوكو في الطبيعة الإنتاجية التي يعطيها فوكو للسلطة في رؤيته للنظام العقابي للمجتمعات الغربية الحداثية.

لكن الصياغة المبكرة لهذه الفكرة تتوضح عند صاحب الجمهورية أفلاطون، إذ تبرز في صياغته للكتاب السابع من الجمهورية. «أسطورة الكهف» تلك القصة الرمزية البديعة والبليغة، تقدم معنى قريبا من المعاني السابقة، وملخصها أن هناك مجموعة من الناس تطاولت عليهم القرون وهم حبيسو كهف، ومقيدون بسلاسل مشدودة، ووجوههم إلى حائط الكهف مشدوهة، فلا يستطيعون مضياً ولا يلتفتون، ومن ورائهم مدخل الكهف يسمح بضوء الشمس أن يدخل، وخلفهم، بين ضوء الشمس والمدخل، دنيا من الكائنات والمخلوقات والأشياء تتحرك وتحيا معاشها. وهناك نار موقدة ترسم الخيالات وكل ما يراه أسرى الكهف إنما هو ظلال الأشياء والكائنات وخيالاتها المنعكسة على تشققات حائط الكهف، فيخيل إليهم من جمود مكانهم أن هذه الظلال هي الحقيقة الحقة والصورة المطلقة. ويحدث أن ينجو أحدهم من السجن فيخرج للعالم الحقيقي وتنكشف له الكشوف ويعرف الأشياء الحقيقية ويميزها عن الأوهام التي ظل رازحاً تحت وطأتها ردحاً من الدهر، فيقرر أن يولي شطر الكهف (السجن) قاصداً تحرير عشيرته من الضلال، فيكون لهم في ذلك منقذاً ولعقولهم محرراً، فيصطدم برفضهم وإنكارهم عليه بل اتهامه بالجنون.

إن هذه القصة الرمزية هي تعبير عن فكرة الفيلسوف وعن إعدام الفيلسوف، عن سقراط الحكيم أستاذ أفلاطون الذي قتلته الديمقراطية الأثينية، عن رفض أفلاطون للنظام الأثيني السياسي، فالنظام السياسي الديمقراطي يمكن المخادع والمتحاذق من الوصول إلى سدة السلطة، ولعل الصياغة المعاصرة لهذه الأسطورة تتجلى في الكهف الإعلامي الذي يشد وثاق الناس ويشكل عقولهم ويغلفها بالأوهام.

من هنا كانت الحاجة الوجودية للفكر النقدي الذي يمثل العمق الثاوي وراء كل فكر فلسفي، وهكذا قدم كل من كارل ماركس وسيغموند فرويد ونيتشه أفكارا للتحرر من الوهم، كما كانت قد ظهرت أفكار مشابهة في أصنام فرانسيس بيكون. ومع ذلك وبالرغم من كل هذه المحاولات التنويرية الكاشفة للفلاسفة فإن «آفة حارتنا النسيان» كما يقول نجيب محفوظ.

back to top