المكفوفون... لمَ يبرعون في الرياضيات؟

نشر في 20-10-2016
آخر تحديث 20-10-2016 | 00:00
No Image Caption
أُصيب برنارد مورين بـ«الزرق» في سن مبكرة وفقد بصره تماماً في سن السادسة. ورغم عجزه عن الرؤية، حقّق نجاحاً كبيراً في علم الطوبولوجيا (علم في الرياضيات يُعنى بدراسة خصائص الأشكال الهندسية الأساسية في مساحة ما) واشتهر بتخيله كرة مقلوبة.
يعتبر المبصرون أن من الصعوبة بمكان تعلّم الرياضيات من دون القدرة على الإبصار (أو حتى معها)، فكم بالأحرى الإبداع فيها؟ في المدرسة، تميل صفوف الرياضيات إلى الاعتماد بإفراط على المساعدات البصرية: أصابعنا، قطع الفطيرة، ومعادلات مدونة على أوراق. ويدعم علما النفس والأعصاب أيضاً مفهوم أن الرياضيات والبصر مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. هذا ما تؤكده دراسات أظهرت أن المقدرات الرياضية لدى الأولاد تعتمد بشدة على مقدراتهم البصرية والمكانية (تُقاس بتحديد مهاراتهم في نقل تصاميم بسيطة، حل أحجيات الصور المقطوعة puzzle، وغيرهما من مهام)، وأن مناطق الدماغ المعنية بالعمليات البصرية تنشط أيضاً خلال حلّ المسائل الرياضية الذهنية. بالإضافة إلى ذلك، يتحدّث العلماء عن {الإحساس البصري بالرقم}، أي قدرة الجهاز البصري في دماغنا على التوصّل إلى تخمينات رقمية.

رغم ذلك، لا يُعتبر برنارد مورين، الكفيف الذي حقّق نجاحاً لافتاً في علم الطوبولوجيا، حالة استثنائية. كان بعض أهم علماء الرياضيات مكفوفين. على سبيل المثال، فقدَ ليونارد أولر، أحد أكثر علماء الرياضيات إنتاجاً في التاريخ، بصره خلال السنوات السبع عشرة من حياته. مع ذلك، قدّم نحو نصف أعماله خلال هذه الفترة. وينطبق الأمر عينه على عالم الرياضيات الإنكليزي نيكولاس سوندرسون، الذي أُصيب بالعمى بُعيد ولادته، إلا أنه نجح في أن يصبح بروفسوراً في قسم لوكاسيان لعلم الرياضيات في جامعة كامبريدج، علماً أن نيوتن تبوأ هذا المنصب ويشغله راهناً عالم الفيزياء الفلكية النظرية ستيفن هوكينغ.

خاصية

إذاً، هل من خاصية تتيح للمكفوفين الإبداع في هذا المجال؟ تشير إحدى النظريات إلى أن المكفوفين، نتيجة لعجزهم عن الاعتماد على الإشارات البصرية أو المواد المكتوبة لتذكّر الأشياء، يطوّرون ذاكرة عاملة أقوى، مقارنة بالمبصرين، علماً أن هذه الذاكرة بالغة الأهمية في الرياضيات. ويعزو البعض الآخر هذه القدرة إلى أن الوقت الكبير الذي يمضيه الولد الكفيف في لمس الأشياء والتلاعب بها يساعده في تفسير المعلومات الرقمية اعتماداً على حواس عدة، ما يجعله أكثر تفوقاً.

يشير عدد من الدراسات إلى صحة هاتين النظريتين. في مطلع العقد الماضي، أجرت جولي كاسترونوفو ومجموعة من علماء النفس من جامعة لوفران الكاثوليكية في بلجيكا بعض التجارب الأولية بهدف اختبار مقدرات الكفيف. فوجئ هذا الفريق حقاً حين لاحظ أن هؤلاء المكفوفين لا يواجهون أي صعوبة، بل يتمتعون أيضاً بمهارات أكبر، مقارنة بالمشاركين المبصرين العاديين في الاختبار.

تذكر كاسترونوفو، التي تدرس راهناً المعرفة الرياضية في جامعة هال بإنكلترا: {طوّر مَن فقدوا القدرة على الرؤية منذ صغرهم آلية تعوّضهم عن هذا النقص}. ويبدو أنها تحقق نجاحاً أكبر في مساعدتهم في بعض أنواع الرياضيات، مقارنة بالمبصرين. ولا شك في أن هذا اكتشاف مذهل وفق الباحثة.

ما زال العلماء يعملون على اكتشاف أجزاء آلية التعويض وطريقة عملها. في مطلع السنة الجارية، نشر أوليفيه كولينيون، عالم نفس يدرس مقدرات المكفوفين المعرفية في جامعة لوفران الكاثوليكية وجامعة ترينتو بإيطاليا، بالتعاون مع عدد من زملائه، اكتشافات تُظهر أن المبصرين ومَن يولدون مكفوفين أو يُصابون بالعمى في مرحلة باكرة من حياتهم يتمتّعون بالقدرة ذاتها على حلّ المسائل الرياضية البسيطة. لكنّ الباحثين لاحظوا اختلافاً أساسياً واحداً: تفوّق المكفوفين على المبصرين في المسائل الرياضية الأكثر صعوبة، مثل عمليات الجمع والطرح التي تشمل حمل رقم (مثل 45+8 أو 85+9)، علماً أن هذه العمليات تُعتبر أكثر صعوبة من تلك التي لا تشمل حمل رقم (مثل 12+31 أو 45+14). ويؤكد كولينيون أن آليات التعويض التي يتحلّى بها المكفوفون تجلّت بوضوح، كلما اعتمد حلّ المسألة على قدرة الشخص على التلاعب بالأرقام المجردة، مثل حمل رقم.

اختبار التحيز الإدراكي

سبق أن اكتشف كولينيون وزملاؤه أن المكفوفين والمبصرين يتعاطون مع الأرقام بطرائق مختلفة على الصعيد الحسي. في دراسة نُشرت عام 2013، ابتكر الباحثون طريقة ذكية للتلاعب بتجربة تُعتمد عادةً لاختبار التحيز الإدراكي وتُدعى الربط المكاني الرقمي لشفرة ردود الفعل (SNARC).

يشمل هذا الاختبار مرحلتين. في الأولى، يُطلب من المشاركين الضغط على زر قرب يدهم اليسرى عندما يسمعون رقماً أصغر من خمسة وعلى زر قرب يدهم اليمنى عندما يسمعون رقماً أكبر من خمسة. أما في المرحلة الثانية، فتُعكس هذه التوجيهات (عليهم الضغط على زر اليد اليسرى إن كان الرقم أكبر من خمسة). يكشف هذا الاختبار عادةً أن المكفوفين والمبصرين على حد سواء يتفاعلون بسرعة أكبر مع الأرقام الصغيرة عندما يكون زرها إلى يسارهم، مقارنة بيمينهم، وبسرعة أكبر مع الأرقام الكبيرة عندما يكون زرها إلى يمينهم، مقارنة بيسارهم.

ولكن في اختبار كولينيون المعدّل، طُلب من المشاركين عكس أيديهم (أي أن من الضروري استخدام اليد اليسرى للضغط على الزر الأيمن والعكس). في حالة المبصرين، نجح عدد محدود في التوصل إلى رد فعل أسرع عند استخدام اليد اليمنى لأن الزر أصبح إلى يسارهم. لكنّ المكفوفين حققوا ردود فعل أكثر فاعلية رغم انعكاس الاتجاهات، ما يُظهر أنهم لا يرسمون موضع الأرقام على المستوى البصري على غرار المبصرين، بل يحددونها وفق موضع جسمهم.

نتيجة لذلك، تعتقد كاسترونوفو أن تلقين الأولاد المبصرين طرائق تتطلّب تفاعلاً حسياً أكبر مع الأشياء يساعدهم في تعلّم الرياضيات بفاعلية. وتعمل هذه الباحثة راهناً على التحقّق مما إذا كان بعض الألعاب اليدوية، مثل Numicon، التي تشمل أرقاماً عدة يجب وضعها في ثقوب مختلفة الأشكال والألوان، تساعد الأولاد كلهم على تطوير مهارات رياضية أفضل.

على نحو مماثل، يزور كولينيون وزميلته فيرجيني كرولن من جامعة لوفران الكاثوليكية صفوف الأولاد المكفوفين في جميع أنحاء بلجيكا لمعرفة ما إذا كانوا يتبعون طريقة مشتركة في التعلّم تختلف عما يعتمده المبصرون. وفي هذا الصدد، يذكر كولينيون أن المعداد (abacus)، الذي يستخدمه عدد كبير من الأولاد المكفوفين لتعلّم الرياضيات، يحسّن على الأرجح مقدراتهم الحسابية. ففي بعض مناطق الصين واليابان حيث ما زالت المدارس تستعمل المعداد، يستطيع الأولاد المبصرون حلّ بعض المسائل الرياضية الذهنية المذهلة.

يذهب كولينيون وزملاؤه إلى حد اعتبار البصر عقبة تمنع المبصرين من بلوغ مقدراتهم الرياضية الكاملة. ويعتقدون أن هذا الأمر ينطبق خصوصاً على عالم الهندسة الرياضية لأن المبصرين يسيئون أحياناً تصوّر المساحة الثلاثية الأبعاد، بما أن الشبكية تعرضها على مساحة ذات بعدين. وينجم عدد كبير من الأوهام البصرية عن تصورات خاطئة مماثلة. في المقابل، يتمتّع المكفوفون بقدرة غير مشوَّهة على تخيّل المساحة الثلاثية الأبعاد.

يستخلص كولينيون: {نعلّم الأرقام بأسلوب بصري لأننا ثدييات مبصرة. لكن هذا الأسلوب يولّد على الأرجح إطاراً يحدّ من قدراتنا. وربما يحررنا العمى من بعض القيود التي تكبّل طريقة تفكيرنا في الأرقام}.

back to top