الرئيس العاشق فرانسوا ميتيران...

وعد بأن يحبّ آن بانجو حتى الرمق الأخير!

نشر في 18-10-2016
آخر تحديث 18-10-2016 | 00:05
أصبح فرانسوا ميتيران رئيساً للجمهورية الفرنسية بينما كانت آن بانجو حارسة المنحوتات في متحف «أورسيه». تحابَّا لأكثر من 30 سنة «باري ماتش» سلطت الضوء على هذه العلاقة السرية في هذا التقرير المشوق.
في ذلك اليوم، لم تحضر لرؤيته. كان ينتظرها بفارغ الصبر وراح ينظر في جميع الاتجاهات بحثاً عنها، لكنها لم تظهر بل لازمت ذلك المبنى الذي تقيم فيه مع أصدقائها. رحل وشعر بأن قلبه ينزف. حاول أن يفهم ما يجعلها تهرب منه مع أنه يحمل لها حباً فائقاً!
كانت آن تبلغ حينئذ 20 عاماً وفرانسوا ميتيران 47 عاماً، لكن نشأت بينهما قصة أسطورية دامت 33 عاماً! تطوّر هذا الحب رغم جميع العوائق وبدا أشبه بالأساطير، وكأنّ شيئاً لن يفرّقهما إلا الموت.
نُشِرت أخيراً 1218 «رسالة إلى آن»، ينكشف فيها واحد من أكبر أسرار فرانسوا ميتيران: إنها قصة شغف صاخب تجاه امرأة خفية. لذا يمكن اعتبار فرانسوا ميتيران الذي كان ليبلغ مئة سنة في 26 أكتوبر واحداً من كبار الرومانسيين على الإطلاق، لكن لم يطّلع أحد على هذا الجانب من حياته.

أرادت آن بانجو، حبيبته السرية، أن يكتشف العالم هذا الجزء من شخصيته. كان يجثو ويغني لها تحت شرفة منزلها وجمعته بها مراسلات قوية ومؤثرة. كان يعتذر لها حين يضيّع وقتها وكأنّ عمله كنائب رئيس المعارضة ثم مرشّح للرئاسة لم يكن مهماً. ورغم أنه كان يستعد لمواجهة ديغول بعد فترة قصيرة، فإنه لم يكن يفكر إلا بتلك الشابة. كان يشعر معها بأنه رجل جديد: «توقظين فيّ مشاعر لم أعرفها يوماً. سأبقى في خدمتك طوال حياتي»، كان يقول لها.

أول رسالة وموعد

في 19 أكتوبر 1962، كتب فرانسوا ميتيران أول رسالة إلى الآنسة بانجو. كانت متحفظة طبعاً واقتصرت على بضع كلمات عن عمل سقراط الذي حدّثها عنه. لم يجد النسخة التي وعدها بها، لذا قدّم لها نسخته الخاصة التي ترافقه في رحلاته. في تلك السنة، وقع ميتيران في حب آن الجميلة. كان حباً جنونياً وقوياً وأبدياً!

تكشف رسائله إلى آن عن أعمق عذاباته بسبب أتفه الأحداث في حياته. يجمع كتاب Lettres a Anne (رسائل إلى آن) جميع الرسائل التي كتبها. لم تحذف آن أي رسالة باستثناء رسائلها الخاصة. لا شك في أنها امرأة غامضة وتجيد جذب الناس من حولها.

في 15 أغسطس 1963، حصل أول موعد غرامي بينهما على شاطئ «هوسيغور». سرعان ما زادت قوة مشاعر ميتيران وعلى مر علاقتهما كان يذكّرها دوماً بذلك التاريخ الذي شهد بداية علاقتهما. أصبحت آن محور رغباته واهتماماته وسرعان ما تحوّلت إلى هوس حقيقي. كان يكتب لها مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع... أو في اليوم! كان يتخيّلها حين تستيقظ صباحاً أو تنام مساءً. في منتصف الليل أو في ساعات الفجر الأولى، كان يكتب لها بضع كلمات يخبرها فيها عن مسار يومه ويعبّر لها عن مكنوناته. أصبحت خلال بضعة أشهر رفيقة قادرة على تقوية إرادته وحريته وسلامه الداخلي.

أول اعتراف بالحُبّ

كان ميتيران أباً لمراهقَين أصغر بقليل من آن. في صباح عيد الميلاد، كانا يفتحان الهدايا لكنه بدا مشغول البال، فانسحب بحجة العمل وراح يكتب لآن: «عشتُ يأساً شديداً في الأيام التي تلت انفصالنا». كان يتساءل عما حصل في قلبها كي تبتعد عنه في بداية عام 1964. ألم تحتمل رؤيته مع زوجته دانيال في المكان الذي كانا يتنزهان فيه، على الشاطئ الأبيض الطويل؟ شعر باليأس في 9 يناير من تلك السنة فكتب لها: «صمتك ينخر كياني!». كان يتخيّل جميع الأسباب المحتملة لتفسير صمتها.

دفعته تلك المعاناة إلى الاعتراف للمرة الأولى بحبه لها. لم يكن ذلك الرجل الناضج يخشى المخاطر التي قد يواجهها ولم يتردد في الاستسلام لحب كان يتمناه طوال حياته. كذلك لم يكن يخاف من التقاليد وحرص على عدم ذكر زوجته في المناسبات العامة، وبالكاد كان يتحدّث عن ولدَيه. هكذا انطلق في رحلة شائكة بينما شعرت آن بأنها بدأت تقع في فخّه. بدا مراهقاً في حبه لها لكنه كان يصطدم بعقلانيّتها، وكان يضطر دوماً إلى كسب رضاها من جديد.

من خلال رسائله يمكن أن نكتشف أجوبة آن التي كانت تحذّره من مخاطر علاقتهما. لكنه كان يكرر لها الكلام نفسه: «أحبك ولا يمكنني التحرّر من حبك أو التخلي عن السعادة والآمال التي تجدّدينها فيّ».

حتى النهاية، كانت آن تحاول إنهاء تلك العلاقة. لكنه كان يستميلها باستمرار. كيف يمكن أن تنجو من ذلك الرجل الجذاب حين كانت في عمر العشرين؟ كيف يمكن ألا تنبهر برجلٍ يكتب لها الأشعار ويقتبس من كتابات سارتر وكوكتو وشكسبير وغيرهم؟ كان يتولى بنفسه تنظيم النزهات معها ويشاركها حبّه للأشجار والأرض. كيف يُعقَل ألا ترضخ الشابة لهذا الرجل الذي يجيد التلاعب بالكلمات ويستعملها بروعة فائقة؟ قال لها مثلاً: «أنتِ بالنسبة إلي الحياة والدم والروح والصداقة والأمل والسعادة والألم. حبك يؤلمني أو يسحرني ويطهّرني». لكن كانت آن المتمردة تقاومه. كانت شخصيتها متّزنة وفي مايو 1964، حين كانا يتابعان التعرّف إلى بعضهما، قالت له: «هل تعلم أني لا أحبك؟». لم تشأ أن توهمه، ومع ذلك أرسلت له صورتها.

لم تشعر الشابة بهدوء داخلي يوماً. كانت منشغلة بدراستها وأرادت أن تجد عملاً. كانت تبلغ 20 عاماً ومن حقها أن تستمتع بوقتها وترقص! كانت تحبّ التجوال ليلاً مع فتيان يغازلونها، ولم تكن تتردد في إخبار فرانسوا بنشاطاتها هذه. ورغم أنه كان يلتزم الصمت ويقول إنه يحترم حريتها، فإنه كان يحترق من الداخل.

صراعات وألم

بلغت آن 21 عاماً فبدأ ميتيران يكلّمها عن صراعاته السياسية ورحلاته، حتى أنه شرح لها عمل المجلس العام. أراد أن يُشرِكها في جميع أحداث حياته ويكلّمها عن أصدقائه. وحين يقرأ الصحف، كان يقتطع بنفسه مقالات يمكن أن تهمّ طالبة الفنون.

كانت حياته كلها تدور حولها ولم يترك له هذا الحب الجنوني أي فسحة للراحة: «لو تعلمين كم يؤلمني غيابك وصمتك وانفصالنا منذ يوم الثلاثاء... فقدانك سيدمّرني ويُشعِرني بالوحدة واليأس». ثم تضاعفت رسائل ميتيران حين شككت بحبه لها فكتب: «أظن أنني أستطيع أن أحبك كما لم يحب أحد أي امرأة. أظنّ أنني أتمتع بالقوة اللازمة كي أجعل من قصة حبنا رمزاً لجمال الحياة بأكملها».

لاحقاً ركّبت آن وأصدقاؤها هاتفاً في 30 مايو 1964 وبات بإمكان العشيقين التهاتف. كان يحب سماع صوتها العذب ولكن لم يتراجع إيقاع رسائله، ثم فرّق بينهما فصل الصيف فكان يكتب لها يومياً وكأنه يريد أن يعوّض لها عن اللحظات التي يمضيها مع عائلته بعيداً عنها.

على مرّ الأشهر والسنوات اللاحقة، اتخذت علاقتهما طابعاً أكثر هدوءاً، وكأن الشابة رضخت أخيراً لمصيرها. وفي 9 سبتمبر 1965، أعلن لها عن نيّته الترشّح لرئاسة الجمهورية، وسرعان ما زادت انشغالاته، إلا أن كلمات الحب التي يقولها لها يوماً لم تختفِ.

في عام 1967، بدأ يصطحبها إلى عدد من أصدقائه لكنها عادت تغوص في صمتها وبدأت تنسحب من حبهما. كان عمرها 24 عاماً في هذه المرحلة. استفادت من سفر حبيبها إلى الولايات المتحدة طوال 17 يوماً كي تطلق العنان لنفسها. راحت ترقص كل ليلة مع شاب مختلف. أخبرها ميتيران المعذّب بأنه يتفهّمها لكنه حذّرها من أن تحرق نفسها. كانت الشابة آن تلعب بالنار وبأعصاب فرانسوا فرفضت في يوم من شهر مايو انتظاره لأكثر من 17 دقيقة. في هذه الفترة كان فرانسوا يشاهد الكوابيس ويتخيّلها مع رجل آخر. كان يمكن أن «يموت من الحب» كما يقول.

كانت مصاعب الحياة تقوّي علاقتهما ولكنهما عاشا في عذاب دائم ومعاناة مستمرة بسبب حبهما المتبادل، فآن التي تحررت من قيود والدَيها بدأت تختنق من حب الرجل الذي أراد أن يملكها، وشعرت بأن روحها تائهة. كانت تقول له كلمات قاسية، فيفقد صبره ويستاء أحياناً لأنه يتوسل إليها دوماً لكنه اعتبر الحب «درساً متواصلاً»، ثم قال لها في مرحلة لاحقة: «هوايتك المعاناة».

عواصف هدّدت ربيعهما

على مرّ السنين، كان فرانسوا ميتيران يتحدث عن فارق العمر بينهما وعن صعوبة تقدّمه في السن. كانت العواصف تأتي لتهدد ربيع حبّهما دوماً، فتعاتبه آن لأنه يعيش «حياة موازية» لكنه كان يؤكد لها أنها حبه الوحيد. أرادت الهرب منه إلا أنهما عادا وهربا معاً لتمضية يومين على انفراد قبل أن تبدأ الدوامة الجهنمية مجدداً. بعد 48 ساعة من السعادة الفائقة، أبدت آن رغبتها في الانفصال، وكان كل انفصال بينهما يكسرها فتفضّل مقابلة أي شخص سواه.

في ديسمبر 1970، حصلت على عمل في المتحف وشعرت أخيراً بأنها أصبحت مستقلة. كانت السنة اللاحقة مليئة بالأزمات. أرادت الرحيل وتركه نهائياً لأنها تحلم بتأسيس عائلة وإنجاب الأولاد، إذ لم يكن تحمّل هذه الحياة المزدوجة والمحبِطة أمراً سهلاً عليها. في هذه المرحلة، كتبت رسالة انفصال جدّية ولكنها لم ترسلها بل حاولت أن تبتعد عنه.

استمرّ هذا المد والجزر في علاقتهما حتى ولادة مازارين في 18 ديسمبر 1974. كانت تلك الطفلة الطريقة الوحيدة كي يحتفظ ميتيران بآن. في 7 يناير، كتب أول رسالة لابنته: «آن والدتك. ستدركين أننا، أنا وأنتِ، ما كنا لنختار امرأة أفضل منها». عاشا فترة من السعادة والهدوء مع طفلتهما. لكن بعد فشله الرئاسي في عام 1974، زاد انشغاله بالسياسة ولم تكن الطفلة مازارين تمنع والدتها آن من اتخاذ قرارات (مؤقّتة) بالابتعاد.

في نهاية عام 1978، أغلقت بابها في وجهه فعاش اضطراباً فائقاً. وفي نهاية عام 1979، اختفت من حياته فانهار بالكامل: «لم يتغير حبي لكِ... لا أهمية لنوبات غضبك وشكوكك ورفضك. أعيش ألماً مريعاً يمزق روحي. نعم أنا منهك. أعرف أنني جعلتك تعانين كثيراً لأنني لم أعش معك. وأنا لم أعد أتحمّل أن تطرديني من حياتك!».

المرأة التي بقيت في الظل

انتُخب فرانسوا ميتيران رئيساً للجمهورية في 10 مايو 1981، فتراجعت المراسلات بين الحبيبَين واستبدل بالرسائل بضع كلمات على بطاقات بريدية خلال تنقلاته الرسمية مع زوجته دانيال. لكن تغيّر الوضع في هذه المرحلة. بدأ ميتيران يعيش حياة موازية مع هذه العائلة الثانية لدرجة أنه ما عاد يعيش إلا معها... لكن في السر! بقي الوضع مضطرباً بينهما حتى النهاية بسبب مازارين وحقيقة الحب الذي يجمعهما.

لا بد من قراءة صفحات الكتاب كي نفهم القوة التي استمدّها الرئيس السابق من هذه المرأة التي بقيت في الظل على مر أربعة انتخابات رئاسية. ويجب أن نركز بشكل خاص على آخر رسالة كتبها الرجل المسنّ في 22 سبتمبر 1995، قبل أسابيع من وفاته: «تكمن سعادتي في التفكير بك وفي حبي لك... كنتِ أهم فرصة في حياتي. كيف يمكن ألا أحبك أكثر بعد؟». في عام 1968، وعدها فرانسوا بأن يحبها حتى الرمق الأخير، والتزم بوعده على طريقته الخاصة...

من رسائل ميتران السرية الى حبيبة قلبه آن بانجو

لم عليك أن تحبّ آن؟

اليوم بتُّ أعرف

أكثر من أيّ وقتٍ مضى

تلقيت منها رسالةً

أحرقني طول الانتظار

آن فرحي... نعمتي... أملي

يدهشني أحياناً ذاك الحيّز الذي تشغله في حياتي

مفاجأةُ الروح المشكّكة في الهناء!

آن أمواجٌ عاتية

عنيفةٌ وطاهرة مثلها هي

آن تمنح وتأخذ

تعرف أنها مانحةٌ

وتجهل أنّها آخذة

وحين تتكسّر لا تتحوّل زبداً

بل نوراً مشعاً...

رسائله إليها تكشف عن أعمق عذاباته بسبب أتفه الأحداث في حياته

لم يكن يخاف من التقاليد وحرص على عدم ذكر زوجته في المناسبات العامة

لم يتردد في الاستسلام لذلك الحب الذي كان يتمناه طوال حياته

مصاعب الحياة كانت تقوّي علاقتهما لكنهما عاشا في عذاب دائم بسبب حبهما

أرادت الرحيل وتركه نهائياً لأنها تحلم بتأسيس عائلة وإنجاب الأولاد
back to top